ثقافة رسالية

نهج البلاغة والحياة (57) هل جربت أن تتنازل عن بعض حقوقك؟

قال أمير المؤمنين، عليه السلام: “أولى الناس بالعفو اقدرهم على العقوبة”.

ممن يكون العفو؟

 من العاجز؟

 أم من القادر؟

حينما يكون الانسان عاجزا عن الانزال العقوبة بحق عدوه، فهل يصدق عليه فعله العفو؟

العفو يكون صادقا في الخارج حينما تكون هناك قدرة على العقوبة، لكن حين تنتفي القدرة على العقوبة، لا يكون العفو إلا بالنية، يعني ينوي ان يعفو عن الآخر، ذلك ان عفو العاجزين لا قيمة له.

المجتمع الاسلامي مجتمع العفو، والتنازل، والعطاء، لا مجتمع الانتقام، وأخذ الحقوق بالكامل، ومن يصدر منه العفو هو ذلك الانسان الذي يستطيع ان يعاقب وهذا هو الصادق في المجتمع الاسلامي.

فالعفو عند المقدرة من شيم الرجال، وصوت العفو عند القدرة ابقى في التاريخ من صوت الانتقام عند المقدرة لان الانتقام طبيعي، إذ انه ردّ فعل، وشيء غريزي يصنعه حتى الحيوان، فأي حيوان حين يستطيع التغلب على الآخر يُنزل به اشد العقوبة، لكنَّ الانسان يستطيع العفو حينما تكون له القدرة على انزال العقوبة بالطرف الآخر، وهذه من شيم الرجال وإنسانية الانسان.

ابو سفيان كان شيخ الكفر في مواجهة النبي الأكرم، صلى الله عليه وآله، وهو الذي ألّب (جمع) على رسول الله أهلَ مكة، وجهز الجيوش، وقتلَ خيرة اصحاب النبي الاكرم، و منهم حمزة عم رسول الله، صلى الله عليه وآله.

لكن؛ بعد ان دخل رسول الله مكة أمر منادٍ فصاح: ألا من دخل بيته فهو آمن، ومن دخل بيت أبي سفيان فهو آمن. هذا الموقف من رسول الله بقي في التاريخ تجاه شخص مثل أبي سفيان، الذي لم يأمن المسلمون من بيته، هذا هو العفو عند المقدرة.

المجتمع الاسلامي الذي يتسم بالتوحيد لابد ان تسود بين ابنائه علاقة الصفح

وبعد فتح مكة وطوافه رسول الله بالبيت الحرام كان يردد: لا إلا الله وحده وحده نصر عبده وهزم الاحزاب وحده”، ثم جمع صناديد قريش الذين قاتلوه، وصادروا امواله واموال  اصحابه، وصعد رسول الله على الصفا والمروة فقال: ما الذي ترونه اني عامل بكم اليوم؟

قالوا: أخ كريم وابن اخ كريم.

فبكى رسول الله، وقال: لا اقول لكم إلا ما قاله أخي يوسف لأخوته: “لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو ارحم الراحمين”.

وشيمة العفو عند المقدرة من الأمور الأخلاقية التي سعى النبي الأكرم، وأهل بيته، الى ترسيخها في المجتمع الاسلامي، لما لها من الأثر الكبير في رأب الصدع بين ابناء المجتمع الايماني، قال رسول الله، صلى الله عليه وآله: “إذا كان يوم القيامة جمع الله الخلائق في صعيد واحد ونادى منادٍ أين أهل الفضل؟ فيقوم عنق من الناس فتستقبلهم الملائكة، فيقولون: ما فضلكم هذا الذي نوديتم به؟ فيقولون: كنا يجهل علينا في الدنيا فنحتمل، ويساء إلينا فنعفو، قال: فينادي منادٍ من عند الله تعالى صدق عبادي، خلوا سبيلهم ليدخلوا الجنة بغير حساب.

وقال الإمام الصادق، عليه السلام: “العفو عند المقدرة من سنن المرسلين واسرار المتقين والعفو والغفران من اسرار الله تعالى اودعهم الله في خيار اصفيائه ليتخلقوا مع الخَلق بأخلاق خالقهم قال الله تعالى: {وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا} ثم قال الإمام: ومن لا يعفو عن بشر مثله كيف يرجع العفو عن ملك جبّار”.

فالانسان الضعيف كيف لا يعفو عن إنسان آخر مثله ويرجو من الله الجبار ان يعفو عنه، “ارحموا من في الارض يرحمكم من في السماء”و “واعفُ عمن ظلمك في الدينا يعفو الله عنك يوم القيامة”.

لا عفو عن احكام الله، ومن يفعل ذلك إنما يريد استمرار الظلم في الحياة، فكأنه يعفو عن الظلم، ويرضى بما يقع على المستضعفين والمظلومين

وهذه  الكلمة لا يعني ان نعفو عن الحكّام الجائرين الطواغيت، فحينما تكون الحياة جبهتين؛ جبهة فيها طاغوت ظالم، وحاكم جائر، فيجب مواجهته، وحين يقع في يد المؤمنين بامكانهم العفو عنه و هذا شيء معقول.

فلا عفو عن احكام الله، ومن يفعل ذلك إنما يريد استمرار الظلم في الحياة، فكأنه يعفو عن الظلم، ويرضى بما يقع على المستضعفين والمظلومين، “من رضي عن فعل قوم كان كالداخل معهم”.

وحين يتكلم الظَلَمةُ عن عفو الاسلام وسماحته في مختلف الوسائل الاعلامية، فإن مقصودهم ليس اللين بين المسلمين، وإنما يقصدون لين المسلمين تجاه ظالميهم، وان يعطي المؤمنون بترولهم للغرب بارخص الاثمان، في حين يرفع الغربيون اسعار منتجاتهم الصناعية التي تكلّف المسلمين اموالا باهضة.

عفو الاسلام ولينه وسماحته يكون بين المؤمنين، لا بين مؤمن وملحد، ولا بين مظلوم وظالم، فمن كان له القدرة على استخدام السلاح ضد الظالم ولم يفعل فهو معه في النار، فسلاح المؤمن يجب ان يدافع عن المظلوم، لا عن الظالمين.

فالمجتمع الاسلامي الذي يتسم بالتوحيد لابد ان تسود بين ابنائه علاقة الصفح، قال الامام الصادق، عليه السلام مكتوب في الانجيل: من استغفر لمن ظلمه من اخوانه فقد هزم الشيطان”، فالمجتمع يتمزّق إذا حكمته روح الانتقام، ووجود النزاعات في اي مجتمع امر طبيعي، لكن لابد ان يتنازل طرف، وإلا يستمر النزاع لسنوات.

المجتمع الاسلامي مجتمع العفو، والتنازل، والعطاء، لا مجتمع الانتقام، وأخذ الحقوق بالكامل

قال رسول الله، صلى الله عليه وآله: “التواضع لا يزيد العبد إلا رفعة فتواضعوا يرفعكم الله  والعفو لا يزيد العبد إلا عزاً فاعفوا يعزكم الله والصدقة لا تزيد المال إلا كثرة فصدقوا يغنكم الله”.

قال عقبة بن عامر، وكان من صحابة رسول الله، صلى الله عليه وآله: لقيت رسول الله واخذ بيدي وبدرني فقال: يا عقبة ألا اخبرك بافضل اخلاق اهل الدنيا والآخرة؟

قلت: بلى يا رسول الله.

قال: تصل من قطعك وتعطي من حرمك وتعفو عمن ظلمك”.

وهذه الرواية وغيرها التي جاءت تتكلم عن العفو والصفح إنما بين المؤمنين، وإلا فإن رسول الله، قاتل الكافرين وواجه الاعداء، فحينما تسود ثقافة العفو بين ابناء المجتمع الاسلامي، فإن هذا المجتمع يتقدم خطوات كبيرة الى الأمام، وإلا فإن شيوع ثقافة الانتقام، وأخذ الحقوق كاملة بين المسلم وأخيه من شأنه ان يربك المجتمع ويعكر صفو الحياة الاجتماعية الايمانية.

___________

(مقتبس من محاضرة لآية الله السيد هادي المدرّسي حفظه الله).

عن المؤلف

هيأة التحرير

اترك تعليقا