بصائر

كيف تعالج البصائر القرآنية المشاكل الأسرية؟

الإنسان ــ كما يقال ــ خُلق اجتماعيا، سواء التعبير بهذه الكلمة او غيرها، فالانسان يرتبط بالآخر بأمور متنوعة، فالله خلق الانسان من نفس واحدة، {وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا}، فالارتباط بين الرجل والمرأة عبر الزواج ارتباط عميق، وهذه هي بداية العلاقة بين المرأة والرجل، ومن ثم العلاقة بين الفرد و الاسرة، وبعدها تتوسع الاسرة أخلاقيا وعمليا.

فعمليا تتوسع الاسرة في العشيرة ومن ثم القبيلة، ومن ثم الشعب، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا}، هذه هي حكمة الدِين المجملة بالنسبة الى حياة البشرية، وهذه هي العلاقة الفطرية، أما كلمة (علاقة طبيعية) فهذه كلمة دخلية لا نعلم من أين أتت، فالخليقة مرتبطة برب العزة، لا بالطبيعة

وهناك علاقة أخرى غير العلاقة الفطرية، هي العلاقة الحضارية بين الانسان والآخر، ويستفاد ذلك من سورة المائدة، ففي سورة النساء الكلام عن العلاقة بين الارحام، وفي سورة المائدة الكلام عن العقود، والتي تمثل الاطار الحضاري للعلاقة بين الناس.

من أساليب تحطيم الإسرة المؤمنة

المستكبرون الذين حاربوا المسلمين بكل وسيلة ممكنة  وعلى رأسهم الصهيونية العالمية، وجدوا ان المؤمنين اصلبَ عودا اكثر مما يتصورون، فقد حاولوا بالترغيب والترهيب لكنهم لم يصلوا الى نتيجة، لان هنالك مقاومة قوية وصلبة.

وحين الأعداء عن اسباب صمود المؤمنين وجدوا ان احد الاسباب في ذلك هو الاسرة، ولذلك بعد الحرب الاولى وانهيار الامبراطورية العثمانية، كان العمل الذي قاموا به هو الهجوم على الأسرة.

فشنَّ مصطفى اتاتورك حربا ضد العمامة والحجاب وعلماء الدِين، ولازالت الحرب ضد الحجاب لكن تم نقلها الى تلك البلاد، ومن ثم وجدوا ان ذلك لا ينفعهم فلجأوا الى تفتيت الأسرة عبر طرق مختلفة، و بعضها نجاحة مع الاسف.

الاسلام ــ وكما هو واضح من خلال البصائر القرآنية ــ يعتمد الوقاية، ويسد الثغرات، ويغلق الابواب التي تأتي منها المشاكل، لذلك تجد القرآن الكريم يحدثنا عن الجوانب السلبية في المجتمع ثم يضع الحلول لمعالجتها

ومن الطرق ايجاد بعض الوسائل التي تصل الى هدف تفتيت الاسرة لكن عبر مراحل مختلفة، فمثلا محاولة توجيه المجتمع الاسلامي نحو البهرجة والكماليات وهذا أحد الاسباب الرئيسية لتفكك الاسرة، فالرجل له قدرة مالية محدودة، لكن المرأة تبحث عن شيء فوق المحدود وهي الحياة المرفهة ذات الكماليات الواسعة، ومن هنا دخلوا الى الأسرة عبر هذه الوسيلة.

ومن ثم لجأوا  الى أمر آخر، وهو ان المرأة والرجل جنس واحد، حتى انهم بدأوا حذف بعض علامات التأنيث في بعض المجالات،  فاللغة الفرنسية مثلا فيها الكثير من مفردات التأنيت، لكنهم بدأوا بحذفها، وهذا ما يسمى بالجندرة، ففي الدول الغربية تعقد المؤتمرات والجلسات عن الشذوذ الجنسي.

الأمر الآخر الذي يحاولون من خلاله تفتيت الاسرة هو الحديث عن الطفولة المبكرة ومحاولة التأثير في هذا الجانب، ويكون ذلك عبر الاجهزة الحديثة، والالعاب الالكترونية، هذه الامور وغيرها يسعون من خلالها الى تفيت الاسرة، ولا اقل من ذلك محاولة ايجاد شرخ بين الجيل الأول، والجيل الثاني، فيكون الجيل الاخير ممسوخا.

نماذج التفتيت من مجتمعنا الإسلامي

هنالك احصاءات كبيرة في المجتمعات الاسلامية لتفشّي حالة الطلاق، والذي من المتفرض ان تكون هذه المجتمعات أقرب الى أحكام الدِين والتعاليم الشرعية، ففي إحدى الاحصائيات لوزارة العدل في ايران لعام 2023، فإن من المئة ألف، عشرين ألف انفصلوا بالطلاق، وهذه النسبة مرتفعة مقارنةً بنسب أخرى في دول المنطقة.

وفي العراق عام 2023 كانت نسب الطلاق من اعلى النسب في العالَم، وهذا يعني ان الطلاق يشمل أمرين آخرين وهو ما يطلق عليه المتاركة، وهو ان يعيش الزوج في بيت، والزوجة في بيت آخر.

وهناك نسب مرتفعة جدا لحالة عدم الزواج، فالاحصائيات مثلا في ايران في خمس مدن كبرى، ان 30% من البنات يفضلن العيش من دون زواج.

وهناك حالة أخرى تعاني منها الاسرة المسلمة، فمعَ وجود العُلقة الزوجية بين المرأة والرجل، إلا ان هذه الرابطة المتينة تصاب بالفتور، وهذا ما يؤثر على الجيل القادم، فإذا رأى الابناء انه لا احترام متبادل بين الزوجين، فمن الطبيعي ان لا يكون هناك احترام من الابناء تجاه الوالدين.

بصائر من الآيات

{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ} وهنا خطاب موجه للناس كتجمّع، وان الكل مسؤول عن حياته الاجتماعية، كما هو مسؤول عن حياته الشخصية.

{الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا}، فالعلاقة بين الزوج وزوجته هي علاقة بين الانسان و نفسه، وليس علاقة بين شخص وآخر.

{وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَتَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ} وهنا الحديث عن الأرحام والتأكيد على التقوى في التعامل مع هذه الرابطة الانسانية القوية.

الاسلام ــ وكما هو واضح من خلال البصائر القرآنية ــ يعتمد الوقاية، ويسد الثغرات، ويغلق الابواب التي تأتي منها المشاكل، لذلك تجد القرآن الكريم يحدثنا عن الجوانب السلبية في المجتمع ثم يضع الحلول لمعالجتها، فلم يتحدث عن مقدار المهر، او عن كمية الملابس التي سيشتريها الزواجان.

{وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوباً كَبِيراً} وهنا في سياق الآيات القرآنية التي تتكلم عن العلاقة الأسرية، يـأتي الحديث عن اليتيم كونه الطبقة الهشّة في المجتمع، وهي الفئة التي يمكن ان تُظلم مما يسبب مشاكل كثيرة في المجتمع.

{وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} هذه الكلمة يأخذها البعض ويبعدها عن إطارها المناسب، فهو ــ تعالى ــ يقول {مَا طَابَ لَكُمْ} وهذه الكلمة جاءت في سياق الحديث عن الايتام.

 ثم تتكلم الآيات عن جانب سلبي في المجتمع، وهو ان بعض الرجال بعد ان يتزوج ويأخذ على نفسه العهد بإعطاء المرأة حقها، ينقلب على عقبيه ولا يعطي المرأة شيئا، قال ــ تعالى ــ: { وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} وهذه نحلة للمرأة، فليست المسألة بيع وشراء، وإنما تعبر عن صدق الرجل في تعبيره عن حبه للمرأة، لانه يريد بناء اسرة، وليس قضاء حاجته الجنسية فقط.

 {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً}  جاء رجل الى أمير المؤمنين عليه السلام، فقال: يا أمير المؤمنين انى يوجعني بطني فقال: ألك زوجة؟ قال نعم.

 قال: استوهب منها شيئا طيبة به نفسها من مالها، ثم اشتر به عسلا ثم أسكب عليه من السماء ثم اشربه فاني سمعت الله سبحانه يقول في كتابه: {وَأَنزَلْنَا مِنْ السَّمَاءِ مَاءً طَهُوراً} وقال: {يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ} وقال: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً} فإذا اجتمعت البركة والشفا والهنئ والمرئ شفيت ان شاء الله تعالى، قال: ففعل ذلك فشفي.

ثم تنتقل الآيات الكريمة في سورة النساء للحديث عن طبقة أخرى هشّة في المجتمع الاسلامي، وهم السفهاء، {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمْ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَاماً}.لان الهدف من المال تنظيم المجتمع، فكلمة قيام تعني ان يسير الانسان الى الافضل في حياته.

محاولة توجيه المجتمع الاسلامي نحو البهرجة والكماليات وهذا أحد الاسباب الرئيسية لتفكك الاسرة

ثم يأتي الكلام عن الإرث، وهذه الامور كلها يأتي الحديث عنها لمعالجة المشاكل، وسد الثغرات، لايجاد مجتمع اسلامي قوي، قادر على تحدي الظروف المختلفة، فاذا لم يُلتف الى مشكلة اليتيم، والسفيه، فإن المجتمع سيصبح هشّا، وهذا المجتمع يكون اقرب الى الانهيار.

وفي إطار مسؤوليتنا لحماية الاسرة؛ يجب ان ندرس بشكل عميق خطط الاعداء، ونعالج المشاكل التي تتعاقب علينا، فخمسة وسبعين بالمئة يجب ان يصلح المؤمن نفسه والمجتمع، وخمسة وعشرين بالمئة يتكلم عن الأعداء، {واعدوا لهم من قوة}، فالقوي يُحترم، لان المستضعف إنما يكون كذلك لانه ضعيف.

لذا نحن كمؤمنين لدينا قدوة أسرية كبيرة، وهي اسرة امير المؤمنين، عليه السلام، وزوجته الصديقة الطاهرة، عليها السلام، وأخلاقيات هذه الاسرة لو سعت الأسرة الاسلامية الى تطبيقها لنجحت نجاحا باهرا.

______________

(مقتبس من محاضرة بحث الخارج لسماحة المرجع المدرّسي دام ظله).

عن المؤلف

هيأة التحرير

اترك تعليقا