إنَّ ما نراه حولنا، وفي وسائل التواصل من محتويات تافهة، أصبحنا للاسف الشديد نراها في تفاصيل حياة أبنائنا، وبالأخص الناشئة والشباب، وهذا لابدَّ أن يوقفنا أمام مسؤولية البحث والتدقيق في أسبابه وأخطاره، و ماله من تبعات على شخصيتهم وعقولهم ومستقبلهم .
ما هو معنى التفاهة؟
وهل هناك فرق بينها وبين الترفيه؟
التفاهة لغوياً : كل ما هو عديم القيمة، الدنيء، وهي نقص في الأصالة أو الابداع أو القيمة .
أمَّا في القرآن الكريم فقد ورد لفظ “سفاهة” وليس تفاهة، قال تعالى : {قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ}. (سورة الأعراف، الآية:66). والسفاهة تدلُّ على إساءة التصرف أو التصرف بما يناقض الحكمة.
أمَّا الترفيه فهو: أي نشاط يقوم بتوفير تسلية أو يسمح للأشخاص بتسلية أنفسهم في أوقات الفراغ .
وهو شيء ايجابي تحتاجه الروح كعنصر أساسي كما جاء في علم النفس و علم الاحياء البشري .
أسباب الانجذاب للمحتوى التافه أكثر من المحتوى المفيد
الإنسان بطبيعته مكوّن بطريقة تجعل الجسم يُفضّل الحفاظ على الطاقة قدر الإمكان ويتجنّب استهلاكها إلّا للضرورة، فهو أقرب لحبّ الاسترخاء والراحة منه للتعب وبذل الجهد، لهذا السبب لو كان الانسان مُتجهاً إلى مكانٍ ما مشياً على القدمين أو على الدراجة الهوائية وكان لديه طريقين، الأول مُنبسط والثاني فيه مُرتفَع، سيختار الطريق المُنبسط، حتى لو كان أطول، لأنه -لا شعوريًا- يُقدّر بأن صعود المُرتفَع سيستهلك طاقةً أكثر مما سيستهلكه الطريق المُنبسط الأكثر طولًا .
وكما أنَّ المجهود العضلي يعدُّه الانسان استنزافاً للطاقة فكذلك يكون حال المجهود الفكري .
هل نستجيب لمتطلبات عقولنا؟
علينا إذاً؛ بعد أن عرفنا العلَّة والسبب، أن نتحدى أدمغتنا وأن ندرِّبها على طلب المفيد ولو ببذل الجهد، فالدماغ قابل للتدريب والتوجيه وتحسين الفاعلية لو تم بذل الجهد المطلوب .
أسباب التأثُّر بالمحتويات التافهة عدة نقاط منها:
١- ابتعاد الناس عن المبادئ والقيم التي ترسم خطوطاً حمراء لنا ولأبنائنا، ومن خلالها نميز الخبيث من الطيب .
٢- ضعف الدِين الذي يهذِّب النفس ويوجهها للصراط المستقيم .
٣ – شدِّة البعد عن الأمور الروحية وفي المقابل التعلُّق بالماديَّات .
٤- انتشار العلاقات المحرمة لدرجة أصبحت طبيعية ولا أحد يستنكرها ويعترض عليها .
إنَّ القيم الإنسانية لها أهمية كبيرة في حياة الأفراد والمجتمع، وبقدر تمسُّك الأفراد والمجتمع بالقيم الفاضلة، وتناقلها بين الناس، بقدر ما يكون لها التأثير الكبير في بناء الشخصية الناضجة التي تبني ولا تهدم
٥ – غياب العلاقة مع القدوة الصحيحة، واتباع قدوات مزيفة كالمشاهير واليوتيوبر وغيرهم .
٦ – ضعف الشخصية، وعدم وجود رؤية وأهداف حقيقية فعالة، وتدنِّي الوعي الفكري، وبالتالي الذوبان في ما هبَّ ودبَّ، فضعيف الشخصية يحاول تقليد من حوله بدون مقياس أو مميز يعتمد عليه .
٧ – الاهتمام بالشعارات والمظاهر وغلبتها على المضمون والفكر.
٨ – حصر النجاح بوجهة نظر الاغلب في قالب ضيق وهو قالب الشهرة والمال والسلطة وما اشبه.
٩ – اعتبار المسؤوليات في الحياة شيئا مجهدا ومضنيا، وبالتالي يلجأون للتفاهات باعتبارها تخرجهم من الضغط .
أخطار انتشار التفاهة
نعم، لقد أصبحت ثقافة التفاهة تسيطر على الحياة اليومية للبشر، وتأخذ من جهد عقولهم الكثير، فتجد الناس يقضون أغلبَ ساعات أعمارهم في جدال ونقاش وخصام أحياناً حول أجمل قميص، وأفضل حذاء رياضي، وآخر صيحات الموضة الرجالية والنسائية والشبابية، وأجمل طلّة يمكن أن تقدم بها نفسك للناس، وأجمل بقرة في العالم وأفضل ثور، وتقام الحلقات النقاشية والأمسيات الطويلة في التلفاز حول العالم للتناظر حول أحلى نظرة ويصوت الجمهور… وغيرها، وربما يعترض معترض فيقول وما ضرر ذلك، فالناس تحتاج للترفيه بسبب ضغوطات الحياة.
إن نظام الرداءة والتفاهة يسمح لإنسان تافه وجاهل بأن يتاجر في المخدرات، ويعمد إلى تبييض أمواله، فيبني مستشفى يُشغّل فيه الأطباء، أو يُشيد مدرسة أو جامعة تُشغل مدرسين وأساتذة، أو يُنشئ مقاولة يُوظف فيها مهندسين، فيغدو هذا التافه النكرة رمزاً وقدوة في المجتمع، بل صاحب الرأي والمشورة والسلطة والقول، أمرا ونهيا، بل ويصبح أيضاً صاحب السيادة في الدولة ويوجِّه ثقافة المجتمع مع زمرة من الإعلاميين التافهين حتى يحقق التطبيع بين الفساد والمجتمع لدرجة تصبح فيه الفضيلة خطيئة تستوجب العقاب والخطيئة فضيلة الفضائل، وتغدو الطيبة حمقاً والخبثُ عبقريَّة وذكاء.
لقد سيطرت التفاهة على العالم حتى أصبح الحديث عن الثقافة ضرباً من العبث العقلي في العصر الراهن فالإنسان الحالي لا رغبة له في التأمل والتفكير ولا وقت له لذلك فلقد حاصره التافهون من كل حدب وصوب بالمشاهد وحاصروه بالصور حتى أصبحت الصورة هي الوسيلة الوحيدة للتفكير، وأصبحت الكتابة غريبة في العصر الراهن وغدت الكلمات مشردة تبحث لها عن مأوى بين الأنامل فلا تجد، فقد احتلت الصورة كل المواقع .
إذا نظرنا وتتبعنا السلوك المجتمعي في العديد من الدول العربية نجد أن قيمة الأخلاق والاستقامة انخفضت بنسبة كبيرة، واتجه الكثير من الناس وخصوصا الشرائح المرفَّهة والمتوسطة إلى الثقافة والممارسات قليلة القيمة، مثلما يحدث في إبراز العديد من الفنانين والفنانات في وسائل الإعلام المختلفة، وعقد المهرجانات هنا وهناك، وتقديم هؤلاء على أنهم نماذج، وقدوة للشباب، في المقابل نجد أن السواد الأعظم من الشعب يعاني في حياته، ويكاد يوفِّر قوت يومه بصعوبة، ومن ثمَّ حينما يرى مثل هذا الإسراف في الحفلات الماجنة، والمهرجانات الكبيرة، وخصوصاً إذا كانت تحت عين ورعاية الدولة، فالطبيعي أن يحدث له ضيق نفسي، وعدم انتماء للدولة التي يعيش فيها، لأن كل شيء تغيّر، وأصبح الظهور والتميز للبارعين في مثل هذه الأمور دون غيرها .
كل ذلك في تقديري نتيجة تسليط الأضواء على الأعمال غير المفيدة في الإعلام، والترويج بشكل كبير لها بالطرق المختلفة، وللأسف وسائل الإعلام تبحث عن الطريق الأسهل للربح من خلال تكريس ما تراه في المجتمع، وفي غالب الأحيان لا تسعى إلى تغييره، أو توجيهه، أو التأثير عليها بالشكل الإيجابي، وفي كثيرٍ من الأحيان يتم الدعوة إلى العري والتبرج بشكل لافت، مع التمييز ضد الحجاب والمحجبات .
كيف نساهم في حلِّ هذه المشكلة
إنَّ القيم الإنسانية لها أهمية كبيرة في حياة الأفراد والمجتمع، وبقدر تمسُّك الأفراد والمجتمع بالقيم الفاضلة، وتناقلها بين الناس، بقدر ما يكون لها التأثير الكبير في بناء الشخصية الناضجة التي تبني ولا تهدم، وهذا يؤدي بطبيعة الحال إلى شعور الإنسان بالراحة النفسية، والسلام الاجتماعي، والطمأنينة والاستقرار والتوازن في الحياة الاجتماعية، كما تساعده على كسب ثقة الناس واحترامهم ومحبتهم، والقدرة على التأقلم مع الظروف برضا وقناعة، وتشكيل نمط عام للمجتمع، وقانون يراقب تحركاته،
ضعف الشخصية، وعدم وجود رؤية وأهداف حقيقية فعالة، وتدنِّي الوعي الفكري، وبالتالي الذوبان في ما هبَّ ودبَّ، فضعيف الشخصية يحاول تقليد من حوله بدون مقياس أو مميز يعتمد عليه
ثمَّ إن المتدبِّر في القرآن الكريم لابدَّ له أن يتوقَّف عند قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}. (الذاريات: 56)، فالغاية من وجود الخلق هو العبادة، وعبادة الله دون غيره تُحيلنا إلى التمتُّع بحرية الأشخاص على وجه البسيطة، فلا الفقير يكون عبدا للغني، ولا الجاهل يكون عبداً للعالم، ولا المرأة تكون أَمَةً للرجل، وبهذا يكون هدف العبادة هو أسمى هدف ينبغي تحقيقه، والعمل على تكريسه، ثمَّ إنَّه من خلال فهمنا للآية نعلم يقيناً أنَّه على الإنسان أن يُسطِّر أهدافه من خلال دراسته، وعمله، ومسؤوليته، ولقد نُقل عن “أينشتاين” أنه قال يومًا: “إذا أردتَ أن تعيش حياةً سعيدةً، فاربطها بأهدافٍ، وليس بأشخاصٍ أو أشياءَ”، والهدف هو الذي يُعطي معنىً للحياة .