ثقافة رسالية

نهج البلاغة والحياة (56) فن الحياة الذي لا يحسنه الكثير

قال أمير المؤمنين، عليه السلام: “قلوب الرجال وحشية فمن تألفها اقبلت عليه”.

لكي تمتلك القلوب أنت بحاجة الى ان تمتلك رصيدا من المحبة تصرفه عليها، ذلك لان القلوب على نوعين، نوع هو قلوب الرجال: اي  اولئك الذين يحق لهم ان يوصفوا بالرجال؛ الرجال الأشاوس، الشجعان، ذوي المروءات والكرامة، ونوع آخر هم: الناس العاديون الذين لا يشعرون في أنفسهم عزة وكرامة، ولا يملكون في قرارة انفسهم الاحساس بالحرية.

قلوب الافراد اللؤماء قد يمكن الحصول عليها وامتلاكها بالعنف والقسر، ولكن قلوب الرجال لا يمكن التحكم فيها إلا عبر المحبة، ذلك لان قلوبهم تشبه الطيور المتوحشة، فإذا هجم عليها الانسان هربت وازدادت نفورا، وإذا تودّد اليها دون ان يثيرها استطاع الحصول عليها.

ترى لو ان مجموعة من الطيور كانت تأكل الحَب في صحراء، وأراد احد الحصول على واحد منها، فإن ذلك لا يكون عبر اطلاق طلقة في الهواء، او الهجوم عليها، او ضربها بالعصا، لانها تمتلك مجالا للهروب، ولكن يمكن الحصول عليها عبر التودّد، فالصياد لا يستطيع صيد طيارا متوحشا إلا عبر شباك يضع فيه ما يحب الطير، لا ما يحبه الصياد.

كذلك الرجال يمتلكون مجالا واسعا في هذه الحياة للهروب لمن يريد ان يفرض عليهم، ويقسرهم على موقف، ولذلك فإنهم متوحشون، والانسان قد يملك الرقاب بالسيف، لكن القلوب لا وسيلة لامتلاكها الا بالحب والعفو.

الحب الذي ينتظره الانسان من الآخرين هو منه وإليه، فمن يعطي الحب يكتسبه، ومن لا يعطي لا يجني شيئا، وهذه معادلة ثابتة في الحياة

الكثير من الحكّام يلجأ الى السيف والعنف لفرض طاعة الناس لهم، ولكن كلما ازداد الناس طاعةً قسرية للحكّام، كلما هربت منهم قلوبهم، وامتلك قلوبهم الحقد على الحاكم، فحينما يكون الانسان حرّا يجد نفورا كبيرا تجاه من يجبره على امر، او يفرض عليه شيئا.

القلوب تستوحش ممن لا تعرفه، فلابد ان يكون تآلف، قال أمير المؤمنين، عليه السلام: “الناس اعداء ما جهلوا”، فإنسان لا يعرفك لا يطيعك، فلن يحبك إنسان لم تجلس وتأكل معه، فأنت ترتاح الى من تعرفه، فمثلا لو كنت تعرف إنسانا فاصبح وزيرا فإنه يملك قلبك، لانك تعرفه، او أنك التقطت صورة مع إنسان فاصبح فيما بعد زعيما، فإنك ترتاح له لانه عرفته في غضون فترة قصيرة.

وأحد المعاني لكلام أمير المؤمنين “الناس اعداء ما جهلوا” اي اعداء لما يجهلون ولمن يجهلون، فإذا عرفوه صاروا اصدقاء، فإذا سافر احدنا الى مكان ما وهو لا يعرف احدا فيه، فإنه يستوحش ولا يثق في أحد، فالوجوه غريبة، بينما الانسان يرتاح الى وطنه، لانه يعرفه، ففي الوطن مراتع الطفولة، وملعب الصغر، ويوجد بيت العمة، والخالة، وبيت الجيران وما اشبه، فلأن الانسان يعرف هذه الامور وإلا لما ارتاح اليها!

قلوب الرجال مستوحشة من الانسان إلا إذا تألفها عبر الاخلاق، والعطاء، والمعروف، وبذل المال، وهذه هي وسائل التأليف والتآلف ومن ثم امتلاك القلوب.

وهنا نقطة دقيقة يبينها امير المؤمنين، وهي: لكي تكتسب القلوب فإن الخطوة الأولى تبدأ منك، لا منها، “فمن تألفها أقلبت عليه”، وقال رسول الله، صلى الله عليه وآله: “تحبّب الى الناس يحبوك” فالحب الذي ينتظره الانسان من الآخرين هو منه وإليه، فمن يعطي الحب يكتسبه، ومن لا يعطي لا يجني شيئا، وهذه معادلة ثابتة في الحياة.

وكمثال آخر، الأب حينما يمنح الحبَّ لأولاده، يجني ثمرةَ ذلك فيما بعد، ومن لم يعطِ أطفاله الحُبَ في الصغر، لن يستلم منهم المحبة في الكبر، لان قلب الطفل مثل الصندوق، ما اُودع فيه يسلمه فيما بعد، وكذلك هو المجتمع، حينما تعطي الرجال المحبة تستلمها منهم، وحينما تمنعها عنهم لا تحصل منهم على شيء، فلا ينتظر أحد المحبة من المجتمع ان لم هو يبادر الى محبة الناس.

وإذا نظرنا الى الرجال العظماء، نجد أن شعوبهم تحبهم، ولأنه ضحّى من أجل شعبه فهو يكتسب المحبة، و ترى الشعب يعطي ذلك العظيم تضحيةً مضاعفة، قال أمير المؤمنين، عليه السلام: “من منع عن الناس رفده منع عنهم يدا ومُنعت عنه أيادي”، ففي الجانب السلبي من لا يساعد الناس فإنهم يخسرون يدا واحدة، لكنه يخسر أيادٍ كثيرة، وفي الجانب الايجابي مُن يعطي الناس فإنه يعطي حبا واحد، لكنه يجني حُب أناس كثر، وهنا المفارقة.

ومن هنا قال أمير المؤمنين، عليه السلام: “أقرب القرب مودات القلوب”.

طبعا نحن لا نولد وقلوبنا متآلفة، لان الاصل في البشر التنافر؛ تنافر في المصلحة، والأهواء، وتنافر في الروابط، وفي التربية، وما اشبه، فلكل انسان شخصية خاصة، فلا يوجد شخصين متماثلين في كل الصفات، صحيح هنالك صفات يشترك فيها بعض الناس، ومن هنا تأتي قيمة التآلف لانه عمل إرادي، وليس اجباري، لان العمل القسري لا أجر عليه ولا أهمية له.

التآلف بحاجة الى جهد وعمل، قال ـ تعالى ــ: {وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً}، لابد ان يكون هناك شيء يجمع القلوب يمثّل المحور للتآلف، وذلك هو الإيمان بالله، وان يكون الافراد على خط واحد هو المنطلق والهدف المشترك.

الرجال يمتلكون مجالا واسعا في هذه الحياة للهروب لمن يريد ان يفرض عليهم، ويقسرهم على موقف، ولذلك فإنهم متوحشون، والانسان قد يملك الرقاب بالسيف، لكن القلوب لا وسيلة لامتلاكها إلا بالحب والعفو

ورسول الله، صلى الله عليه وآله، بُعث الى قوم أنفسهم شديدة، كان العنف هو السائد في علاقاتهم، وليس من السهل تأليف قلوبهم، بحيث لو لطم رجل من قلبية لقاتل عنه قبيلته، لكن الايمان ألّف بينهم حتى قاتل الرجل أباه، وأخاه، وعشيرته، فلم تبقَ العشيرة هي المحور، بل الدِين صار القطب الذي يدورون حوله.

“قلوب الرجال وحشية فمن تألفها اقلبت عليه” هذه الرواية من الروايات الاخلاقية التي تبيّن فن الحياة، وفن العلاقات مع الناس، ومع اكثر هذا النوع من الروايات في احاديث النبي، صلى الله عليه وآله، والائمة  الطاهرين عليهم السلام.

واول ما يجب ان يعرفه المؤمن في فن العلاقات هو انه كيف يحب، و المحبة تبدأ من القلب، لان القلوب لها ارتباطات بعيدة عن الأجسام، وهذا ما يؤكده عليه السلام، ولا يعرفه الكثير من الناس فيخسرون.

حتى في العلاقة مع الله ــ تعالى ــ فمن يتحبب اليه فهو ـ تعالى ــ يحبه، “يا حبيب من تحبب إليه” وفي الصحيفة السجادية التي تحوي أدعية الإمام زين العابدين، عليه السلام، هنالك مناجاة باسم “مناجاة المحبين”.

______

(مقتبس من محاضرة لآية الله السيد هادي المدرّسي حفظه الله).

عن المؤلف

هيأة التحرير

اترك تعليقا