ما أن نزلنا من الحافلة استقبلتنا الأرض بشوق كبير، أرض سامراء هذه البقعة المباركة بمرقديْ الإمامين العسكريين عليهما السلام، والعامرة بأهلها الطيبين الأجاويد، ما أروع هذا المشهد المهيب المتجسد بقلوب تنبض بالمحبة والعطاء ونكران الذات وإظهار الدرجات العليا من الألفة والتعاون لخدمة الوافدين بكل ما أوتوا من خير وكرم ووفاء.
وجوه مشرقة بالأمل والولاء لرجال أصلاء يبتغون التقرب الى الله بجودهم وبجهودهم القيمة المباركة وتقديم أفضل الخدمات والتسهيلات لراحة الزائرين القادمين من شتى محافظات الوطن الحبيب.
راحت الأقدام تجري نحو المرقد المبارك، والخدمة المتأهبون ينثرون على طول الطريق كل الطيبات والكلمات الوديّة الصادقة وكأننا نمشي في روض من العشق والتقارب والتعايش بين الجميع.
لم تسعني الفرحة الكبيرة تلك وأنا أرى هذا التفاعل و هذا الفعل الانساني الكبير الذي يجعل النفوس أكثر أماناً واطمئناناً، وسعادة في هذه الأجواء الروحانية المتوهجة بهذه الصور العظيمة، وهي تثبت أن لا شيء يمكن أن يفرّق بين البشر سوى الشيطان والنفوس الشريرة.
الأقدام تجري ونهر المحبة يتدفق ويندلق ليغدق الأرض ويسقي النفوس كل السعادة والأمان والحياة الحرة الكريمة.
عطشي أجبرني على الوقوف عند أحد الخدَمَة وهو يضع حوضاً كبيرا فيه كاسات ماء بارد؛ قدَّم لي الماء لأشرب وهو يردد (على حب الحسين … على حب الإمامين العسكريين)، وأنا أشرب الماء رأيته يحدّق في وجهي بتركيز واهتمام وكأنه يقصد شيئا ما من هذه النظرات، وكلما مَرَّ زائرٌ ليشرب يناوله الماء ثم يعود لينظر الي مرة ثانية، وثالثة، ورابعة، وأنا بدوري انتبهت له وكأن وجهه مألوف كما لو أنني قد رأيته أو التقيت به ذات يوم ولكن لم أميِّز ولم اتذكر أين ومتى.
وإن تماديه بتوجيه نظراته نحوي والتركيز عليَّ دون الآخرين جعل بعض القلق يتسلل الى داخلي، فبدأت الأفكار والهواجس تحيلني الى عاصفة من الحوادث والمعضلات التي أثارها الشياطين الأجانب في محاولة منهم تمزيق اللحمة الوطنية، والأواصر الاجتماعية في هذا البلد العريق الذي لم يستسلم لنواياهم بفضل القيم، و الأصالة والانتماء للأرض الطيبة التي ضمت أجساد الأولياء الطاهرين عليهم السلام.
رميت الكأس البلاستيكي الفارغ في حاوية الفضلات القريبة ثم هممت بمواصلة المشي باتجاه المنائر وقبة الإمامين العسكريين،عليهما السلام، وهي تسطع تحت الشمس و تشع بهاء وسلاماً على مد البصر.
وأنا أمشي، إذ جرَّتني خطواتي لمسافة قليلة سمعت صوتاً يناديني باسمي:علي .. أبا حسين!
التفتُّ ورائي وإذا بي أرى ذلك الرجل الذي كان يوزع الماء والذي حدَّق في وجهي طويلاً، تقرَّبَ اليّ وقد ازدحمت بي الهواجس والظنون، وأنا في حالة استغراب شديد لاهتمامه بوجودي هنا، ارتسمت على وجهه ابتسامة عريضة لم استطع تفسير معانيها، هل أنه ينوي على فعل شيء أو أنه ربما يبحث عن رجل يشبهني توهَّمَ أنني هو سارعت في السؤال:
– من أنت أخي كيف عرفت اسمي؟ ماذا تريد؟
– أما عرفتني حقا؟ يا عزيزي، أنا محمد أبو إبراهيم.
أسماء وأشخاص تمر كثيراً في حياتك مرور الكرام منها ما تترسخ في الأذهان ومنها تذروها الرياح بمرور الوقت بفعل ضعف الذاكرة، وبتزاحم العديد من الفواجع والمصاعب التي تمر علينا وقد أخذ منا الزمان كثيرا، فمن يا ترى هذا الشخص؟
– يبدو أنك نسيت، أنا أبو إبراهيم، يوم زرتك في موكبكم أيام الأربعين قبل تسع سنوات.
وأنا أحدق في ملامح وجهه تأملت كلامه الذي طمأنني قليلا، تقدم وعانقني بحرارة شوق كبير وأثناء العناق رجعت ذاكرتي التي حدثتني عنه، فقد زارني أبو ابراهيم يومها في موكبنا، وأراد مكاناً لكي يصلي ولكنه كان متحرجاً وقتها ففتحنا له قلوبنا وموكبنا، وقد وفرنا له كل مستلزمات الراحة وهيأنا له أيضا مكانا للمبيت وهو مندهش لتلك المعاملة التي عاملناه بها، وقد شكرنا على ذلك الخلق الرفيع والمحبة التي ورثناها من أهل البيت، عليهم السلام.
– أنت اليوم ضيفي يا أبا حسين، فأنا فخور بك ولا يمكن أن أنسى فضلكم وأخلاقكم العظيمة التي جعلتني وحفزتني أن أقوم بهذه الخدمة وأوزع الماء على زائري الأمام العسكري عليه السلام في ذكرى وفاته.
– شكرا لكرمك يا أبا إبراهيم أخي العزيز، الحمد لله الذي رزقنا الزيارة والتقينا بك ثانية وتشرفنا بفعلك المبارك وخدمتك الكبيرة، هذا من فضل الله
أردف أبو إبراهيم قائلاً:
– لقد تعلمت من كرمكم الكثير، كما وأني قرأت الكثير عن أقوال وأحاديث الإمام العسكري، عليه السلام، وهي تحمل مضامين عميقة ومهمة عن المحبة والتعاون والتعايش بين الناس باختلاف مذاهبهم واتجاهاتهم.
أسعدت حقاً بلقائه وترحيبه ومحبته الكبيرة فقد رافقني الى زيارة المرقد الشريف، وبعد اتمام مراسيم الزيارة أجبرني أبو إبراهيم على أن يضيفني في بيته العامر بالبركات، والزاهي بلوحات مضيئة بعدد من الآيات القرآنية المباركة و أحاديث النبي الكريم، صلى الله عليه وآله، و أقوال الإمام الحسن العسكري عليه السلام، والتي تدعو للمحبة والتكاتف والتمسك بالوحدة والتعايش السلمي، ولطالما كان الإمام، عليه السلام، يدعو لذلك أسوة بأجداده وآبائه عليهم الصلاة والسلام.
كانت اللوحات معلقة وموزعة بشكل منسق وكأنها نوافذ تطل على آفاق واسعة توسع الصدور وتسعد النفوس، وكم ابتهجت حينما رأيت إحداها للإمام العسكري عليه السلام، وقد كتب عليها قوله المشهور: “قبري بسُرَّ مَن رأى أمانٌ لأهلِ الجانبين”.