إن من حقنا ولنا الفخر كا أمة مسلمة أن نقول. إن النبي محمد، صلى الله عليه وآله، هو ملهم الحضارة الأعظم، وكان قائداً فذاً عظيما، استطاع أن يبني أمةً من الشتات والفتات المبعثر، حتى لملم الأوصال، وأوصل بين المتباعدات، إلى ان بنى أمةً عظيمة، ترسو على أرض واسعة، ضمت فيما بعد الشرق والغرب ذلك هو نبي الإسلام محمد، صلى الله عليه وآله.
كان نبينا الأعظم حاكماً مثقلا بهموم رعيته، يمنحهم من مودته وعطفه ما يجعلهم يفدونه بأنفسهم، ومع هذا كله فهو قائم على أعظم دعوة شهدها الكون الدعوة التي حققت للإنسان وجوده الكامل وتغلغلت في كيانه كله.
لقد رأى الناس تمثّل تلك الصفات الكريمة في الرسول الحبيب، فصدقوا تلك المبادئ التي جاء بها كلها، فهم لم يقرأوها في كتاب أصم جامد، بل رأوها ووعوها في انسان سامٍ بخلقه، ومتلهف إلى هدايتهم فتلهفت له نفوسهم، وهفت له مشاعرهم، والناس إليه كعرف الضبع ينثالون، وحاولوا أن يقتبسوا من فيوضاته ما يذيب جليد الظلام المطبق على دنياهم، كلا بقدر ما يطيق، فكان أكبر قدوة وأعظم أسوة للبشرية في تاريخها الطويل، وكان داعيا إلى ربه، ومنظرا إلى الحق بسلوكه الشخصي قبل أن يدعو إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة، وقبل النطق بالكلم الطيب المبين.
ويا له من كلام منصف في حق النبي قاله العالم الأمريكي مايكل هارث، حيث قال: “إن محمدًا كان الرجل الوحيد في التاريخ الذي نجح بشكل أسمى وأبرز في كلا المستويين الديني والدنيوي، إن هذا الاتحاد الفريد الذي لا نظير له للتأثير الديني والدنيوي معا يخوله أن يعتبر أعظم شخصية ذات تأثير في تاريخ البشرية”. (كتاب قالوا عن الاسلام، ص:٧٧).
ان النبي محمد، صلى الله عليه وآله، كان قد جاء الى أهل الأرض جميعا بمنظومة رائعة في القيم الاجتماعية السامية، واستطاع بحق ان يخرج الناس من الظلمات الى النور المبين، ومن هنا علينا ان نفرق بين القيم السامية التي جاء بها الأمين من عند ربه، وبين من يدعون أنهم حملة لتلك القيم والأخلاق التي لا تمت بأي صلة الى النبي الأكرم ودينه الخالد العظيم.
إننا لو فعلنا ما أراد منا النبي الأكرم لوجدنا أنفسنا في العلياء من النجم، ولا يصل إلينا أي مجتمع آخر ولا يضاهينا أي كيان
فمنهاج النبي الحقيقي ليس نظرية تقرأ فحسب، وإنما هو عمل وتطبيق، وأخطأ من قال ان الاسلام نظرية من دون تطبيق، لكن قد يشكل البعض علينا ويقول: لماذا انتم يا أتباع محمد على هذا الحال من التخلف والجاهلية والتدهور في الجوانب الحياتية كافة؟! فأنتم موزعون بين دول متناحرة ومفككة، تحكم فيكم القوميات والأعراق والجهوية والطائفية وغير ذلك؟ حتى بدا الاضطهاد وكأنه سمة خاصة بالمسلمين وحدهم، والقتل والتشريد وما أشبه ذلك من المشاكل التي لم نر مثلها في غير البلاد الاسلامية.
نقول وبصراحة مشوبة بالألم والخجل كذلك: أن الذي أوصلنا الى هذا الحال هو التراجع المخيف الذي ركبه الكثير منا وسرنا به بعيدا عن منهاج محمد، وما يمثله الاسلام الأصيل، حتى صار الاسلام ونبيه والمؤمنون في جهة ونحن في جهة أخرى، وصرنا نحمل من الاسلام والنبي الأكرم، صلى الله عليه وآله، شكليات وعناوين جوفاء، وشعارات بالية سئمنا منها.
فمثلا نجد ان النبي يدعو الى العدل، والمسلمون مع الأسف الشديد يشيع هذه الايام بينهم الظلم المقيت، والنبي يدعو الى العلم، والغالبية من اتباعه الآن متمسكون بقيم الجهل والجاهلية التي أكل الدهر عليها وشرب، والنبي يدعو الى الانطلاق نحو الأفق الأعلى والمجد الرائق، والأتباع لا يزالون يعيشون في جحورهم التي لا يريدون ان يخرجوا منها.
إننا لو فعلنا ما أراد منا النبي الأكرم لوجدنا أنفسنا في العلياء من النجم، ولا يصل إلينا أي مجتمع آخر ولا يضاهينا أي كيان، ولكان الاسلام بلسما الجراحنا التي مازالت تنزف على أرض أثقلت بالدماء، إن استمرت على هذا المنوال فربما ستصل الى حد يمكن لها أن تعود من جدید.
مع الابتعاد عن النهج المحمدي الأصيل، نجد أننا مازلنا الأفضل بين الأمم من ناحية الأخلاق والعادات والتقاليد التي تحمل بين جنباتها ملامح تمت بالصلة الى ذلك السراج المضيء، الذي لم تخلق الخلائق إلا لأجله وأجل آله الطاهرين.
نعم فبحمد الله هناك أناس وإن امتازوا بالقلة قياسا مع الأكثرية ما زالوا يسيرون بهدي الحق المحمدي، يحملون من قيم النبي محمد الاجتماعية ما يكشف للجميع قيمة وأصالة ذلك المبجل العظيم، وفيهم من الصفات التي تعمل على بث روح التفاؤل لذلك المجتمع الرازخ تحت كثبان التيه والانجراف، فأنت ما إن تنظر في كل بقعة ودائرة اجتماعية حتى تجد لأولئك صدى يتجاوز كل العقبات والجدران العازلة، فينبعث الأمل مستبشرا بتلك الجذوة التي سيأتي اليوم الموعود، فتشعل العالم كله لتعيد الحق الى نصابه، حينئذ سيكون المجتمع هو المجتمع الذي أراده الله جل وعلا أن يسود في أرضه، مجتمع العدل والمساواة والحق والازدهار، الذي سيُملأ قسطا وعدلا، بعدما ملئ ظلما وجورا.
كما وقد تأثر بهذه الشخصية الفذه أكابر علماء الغرب أمثال غوستاف لوبون، إذ يقول: استطاع محمد أن يبدع مثلاً عاليا قويا للشعوب العربية التي لا عهد لها بالمثل العليا، وفي ذلك الإبداع تتجلى عظمة محمد على الخصوص.. ولم يتردد أتباعه في التضحية بأنفسهم في سبيل هذا المثل الأعلى. ( حضارة العرب، غستاف لوبون، ص: ١١٦).
و الكاتب والأديب البريطاني الشهير هربرت جورج ولز (١٨٦٦- ١٩٤٦) حيث يقول: حجَّ محمد حجة الوداع من المدينة إلى مكة، قبل وفاته بعام، وعند ذاك ألقى على شعبه موعظة عظيمة، إن أول فقرة فيها تجرف أمامها كل ما بين المسلمين من نهب وسلب ومن ثارات ودماء، وتجعل الفقرة الأخيرة منها الزنجي المؤمن عدلاً للخليفة، إنها أسست في العالم تقاليد عظيمة للتعامل العادل الكريم، وإنها لتنفخ في الناس روح الكرم والسماحة، كما أنها إنسانية السمة ممكنة التنفيذ، فإنها خلقت جماعة إنسانية يقل ما فيها مما يغمر الدنيا من قسوة وظلم اجتماعي، عما في أي جماعة أخرى سبقتها. (معالم تاريخ الانسانية، هربرت جورج ولز: ٣، ص: ٦٤٠-٦٤١).
ياسيدي يا رسول الله، صلى الله عليك وآلك، لقد خرجت أفاعي الظلام من جحورها من جديد بعدما أوذيت في حياتك كثيراً وكما قلت: “ما أوذي نبي مثلها أوذيت”.
اليوم يؤذونك مرة أخرى هؤلاء الذين أعمى الله بصرهم وبصيرتهم وباتوا يتخبطون في غمرات جهلهم وضحالة عقولهم المريضة بحجة (حرية التعبير) وحرية التعبير أسمى وأنيل وأظهر من الدجل والزيف والانحطاط الذي سلكوه لغايات دنيئة، ومحاولات تشويه أعظم شخصية عرفتها الإنسانية هو اعتداء على حرية التعبير.
وهل أن حرية التعبير قد نضب معينها فأبت إلا أن تجرح مشاعر وقيم مليار ونصف المليار مسلماً باعتدائها على أشرف خلق الله؟ وعتبي عليكم أيها الليبراليون العرب الذين ركبتم الموجة وأيدتم هؤلاء البؤساء الفقراء في خُلقهم وسلوكهم بحجة حرية التعبير وما أفقر وأتعس هذه الحجة الباهتة في هذا المضمار.
استطاع محمد أن يبدع مثلاً عاليا قويا للشعوب العربية التي لا عهد لها بالمثل العليا، وفي ذلك الإبداع تتجلى عظمة محمد على الخصوص.. ولم يتردد أتباعه في التضحية بأنفسهم في سبيل هذا المثل الأعلى
أما هؤلاء الذين يفجرون أجسادهم النتنة بين الأبرياء العزل، دون ذنب أو جريرة ويصرخون بكلمة (الله أكبر)، وهي منهم براء فإنهم من أشد أعداء هذا الدين العظيم الذي عفا أعداء أعدائه والتاريخ شاهد على ذلك أنهم ليسوا أعداء للدين الإسلامي العظيم فقط، لكنهم أعداء حقيقيون لأنفسهم ولكل الأديان السماوية من اليوم الذي خلق الله سبحانه وتعالى فيه آدم والى اليوم الذي بعث الله عز وجل فيه محمداً، صلى الله عليه وآله، بالحق رسولاً الى العالمين.
واليوم سيدي يا رسول الله يتعرض زوارك المتعطشون لنورك البهي لأشرس حملات الضرب والاعتداء الهمجي الذي يتنافى وروح الإسلام وقيمه النبيلة من همج رعاع قساة غلاظ لا يختلفون عن أولئك القساة الغلاظ الذين ملأوا قلبك قيحاً في مكة والمدينة، وزوار سبطك الحسين بكل انواع التضيق والسخرية والتهكم كأنهم جاءوا بعظيم الذنوب التي لا تغتفر.
ونحن نشكو لله الذي بعثك بالحق رسولاً ورحمة للعالمين والى روحك النقية الطاهرة ونبرأ من كل هذه الأعمال الهمجية التي رفضتها قيم الإسلام وشريعته السمحاء، و ستبقى سيدي يارسول الله نوراً أبدياً ينير الطريق للبشرية مادامت الأرض والسماء رغم كيد الأعداء وغدرهم وافتراءاتهم وتخرصاتهم وسنبقى نردد ما قاله حسان بن ثابت مادام في أجسادنا عرق ينبض:
وأجمل منك لم تر قط عيني
وأحسن منك لم تلد النساء
خلقت مبراً من كل عيب
كأنك قد خلقت كما تشاء
{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا}. (سورة الأحزاب، الآية: ٢١).
ألا يحق للمسلمين أن يتخذوا من سيرته العطرة منارا يهتدوا به ونحن بهذه الذكرى الأليمة لفقده في شهر صفر شهر الأحزان على آل البيت ع فهو وإن غاب عن هذه الدنيا الفانية فهو موجود في قلوب الاحرار فكرا وعملاً ومنهجا.