أدب

حُلمٌ يتوهّج بصوت الحُسين عليه السلام

– نَص سيرة –

صمت رهيب يسود الصالة والحوارات صاخبة بين الممثلين المتوزعين على خشبة المسرح.

الكل مشدود نحونا والأضواء تنتقل فيما بيننا لتوقظ فينا الانفعالات والأحاسيس الصادقة كي نطلقها نحو الجمهور المتعطش الذي ينتظر منّا كل دهشة و مفاجأة.

الحوارات تترا..

وأنا في موقع من مواقع المسرح – أظنه في الوسط – أجلس في وضع إيمائي منتظراً أن ينهي زميلي حواره الصاخب ليحين دوري في الرد عليه.

 كنت مُنهكاً جداً أثناء العرض، ولم أشعر إلا والنعاس يقتحمني بقوة عارمة دون إرادتي، لأغفو، فغفوت وأنا في عالم الرؤيا.

قد يتعرض الممثل في الكثير من الأحيان الى نوع من الشرود لأسباب شتى، منها؛ قلة التركيز أو عدم حفظه للدور بإتقان، او بسبب الإجهاد الذي يعتريه أثناء أدائه، أو ربما للرهبة التي يسببها ثقل الجمهور المهيمن على المكان، او لضعف أداء الممثل المقابل، مما يكون سبباً في حدوث بعض التلكؤ ونسيان أجزاء من الحوار، أو ربما عدم إيمانه أصلا بالدور الذي يقوم بتجسيده.

انتبهت فجأة من غفوتي لأرى المسرح فارغا إلا منّي! ارتعبت لذلك الصمت المطبق، ارتبكت لتلك الوحدة القاتلة، وانتابني حرجٌ شديد والجمهور ينتظر منّي أن أقول شيئا، ولكن ماذا عساي أن أقول؟ لقد نسيت حواري، أين ذهب الممثلون؟! لماذا تركوني هكذا؟ لماذا هذا الصمت؟

من ينقذني من محنتي؟ّ!

 كيف أتصرف؟! أسعفني يا الهي.

وحيداً على الخشبة، ولكن لابد من فعل شيء، لابد من إنقاذ الموقف.

إن على المُمثل أن يتحلّى بصفات تسعفه في مثل هذه الحالات لإنقاذ الموقف وتجاوز الأخطاء، وأن يكون سريع البديهية لكي لا يشعر الجمهور بحدوث خلل ما في العرض.

 فجأة، وفي ذلك الصمت الرهيب وأنا في عالم الرؤيا دفعني حماسي المسرحي الى أن أنطلق و أدور فوق الخشبة وصوت يتفجر من أعماقي لأهتف مرتجلاً بإلقاء مسرحي يسحر السامع فأصدح بكل قوة: يااااا…حسين!

 تفاعل الجمهور معي مصفقا بحماس لا نظير له ثم كررتها: يااااا…حسين!

وهتفت بها ثالثا بصوت أقوى وأعلى وأنا أتنقل من موقع لآخر: ياااا…حسين!

عندها تعالى صوت التصفيق وأنا أحيّي الجمهور بفرح وثقة وأنهي العرض، ثم أغلق الستار، فاستقبلني المخرج والممثلون المتواجدون خلف الكواليس بالعناق والقبل والتهاني الحارة مباركين لي أدائي وانقاذي للموقف، عندها استيقظت من المنام تحفّني أنوار البهجة والاطمئنان.

بعد عام أو أكثر وفقني هذا الحُلم لأن أقف بكل عواطفي ومشاعري (راهبا) أمام أسمى رأس في تاريخ التضحية، وأمضى اسم في صفحات الرفض والإباء محاولاً بكل جهدي أن أرتقي الى مئذنة، أدور على الخشبة مثلما حدث في الحلم كطائر هائم حول سطوع ذلك الرأس المقدس في مسرحية “صوت الحسين” عليه السلام، تأليف الشاعر رضا الخفاجي، وإخراج الفنان مهدي هندو، وإنتاج العتبة الحسينية المقدسة.

موقف جليل كلّلني بالخشوع  كيف يمكن أن أنطلق في مداه، وهو الذي عبر المدى  واخترق الأكوان والأزمنة، كيف يمكن لممثل أن يتخيّل أو يتصور لكي يؤدي هذا الدور وهو أمام ملحمة فاقت كل آفاق الأخيلة والتصورات.

إذن؛ عليّ أن استحضر أهوال ما جرى في واقعة الطف، وأستجمع ما لدي من عواطف وأحاسيس ومشاعر لأترجمها إما بأفعال خارجية حركية، أو بالصمت والسكون أحيانا، أو الذهول باستخدام تعابير الوجه وحركة العين، فالصمت قد يكون أقوى تأثيراً إذا كان مصاحباً لطاقة انفعالية داخلية قوية ترتسم على الوجه، وبما أن شخصية الراهب في طريقها لمعرفة الحقيقة والتحول، عليها أن تكون أكثر دقة في تعاملها مع الأحداث والمواقف والشخوص الأخرى؛ عليها أن تكون أكثر تأملاً وتفكراً حول ما يحيطها من أفعال، فكل حركة محسوبة، وكل انفعال أو صوت أو همس، له قيمته ودلالته العميقة.

يتوهّج الرأس الشريف لكي يتوهج الممثل بشعرية التعبير المنسجمة والمتوافقة مع شعرية الكلمة وعمقها الفكري والإنساني.

(الراهب) وحده على الخشبة، وهو يقابل الرأس المقدس، يتعامل معه بذروة من الوعي والخشوع، يقترب، أو يبتعد، يتأمل، يفكر، ثم يقرر، وكأنه يستحضر كل أحداث الكون وكل معاني الإنسانية في فهمه للحقيقة، ثم التحول لكي يوصل رسالة إنسانية كبيرة الى الآخر. فكم علينا أن نتوهج ونقول كلمتنا الحق، ونطلق النشيد؟ وكم علينا أن نقوم بأدوار وأفعال قيّمة من أجل الإنسان ومبادئه وقيمه العظيمة لتحقيق هدفية وجودنا على مسرح هذه الأرض القاحلة؟ القاحلة؛ أمام خضرة وخصوبة ذلك الرأس المتوهج على مدى العصور.

عن المؤلف

كفاح وتوت

اترك تعليقا