في اليوم العاشر من المحرم في ذلك الحر اللاهب والرياح الحارة، والعطش الشديد، وإذا بالحسين عليه السلام، يرفع يديه للسماء ويتمتم بكلمات فأمطرت السماء ماء وعلا نسيم بارد، فأرتوى عيال الحسين وتنفسوا الصعداء كانهم ركبوا سفينة نوح وهبت رياح عاصفة في جهة معسكر الأعداء فجعل عاليها سافلها وافاض المعسكر ماءا وكأنه طوفان موسى.
قف معي لحظة؛ هذا هو سيناريو مفترض لو أن الامام الحسين، عليه السلام، قاتل بمعجزة أو قام بالمعاجز والكرامات، إلا أن ما حدث في قضية كربلاء لم يحدث بالمعجزة، بل حدث بالمجريات الطبيعية وبالامكانيات العينية، مع أنه من الممكن أن يجري الله على يد حجته على خلقه المعاجز والكرامات، لكن شاء الله أن تجري إرادته لهذا الأمر مع إمكان قدرته أن تجري تلك المعاجز المتصورة.
وشاء الله أن يبدّل أصحاب الرسائل نيتهم من دعوة الحسين، وشاء الله أن يجتمع اصحاب الحسين بين عبد، وسيد، وقريب وبعيد، وشاء الله أن يرجع الحر بن يزيد الرياحي تائبا آبقاً، ويقاتل بين يدي الحسين بعد أن جعجع بالامام وروع عياله.
فكانت إرادة الله في أن يختبر عباده بابن بنت نبيهم الى آخر الأمر، وهذا من الحجج البالغة، ومن هذه الرحمة الإلهية أن الله جعل باب التوبة مفتوحاً لجيش يزيد و قادة جيشه حتى آخر لحظة قبل وقوع القتال.
مع كل هذا فضّل عمر ابن سعد حلمه بحكم الري على نصر “ابن عمه”، كما فضّل عبد الله ابن عمر ركعتين في بيت الله على نصر ابن بنت النبي! فخذل من أهل الكوفة من خذل، وسكت من سكت، وفضّل عامة الناس دنانير ودنيا يزيد على دين الله وعلى أمام زمانهم الامام الحسين.
ففي معادلة الحق والباطل هنالك من خسر خسرانا مبينا وضلَّ ضلالا بعيدا، وهنالك من تمسك بحبل الله المتين صراطه المستقيم.
رغم ذلك فإن الرحمة الإلهية وباب الله كان مفتوحا إلا من حق عليه القول طبعاً، لكن كيف؟
الجواب: في كلام الحسين عليه السلام: اراد بالناس أن يبلغوا الفتح: “من لحق بي استشهد ومن لم يلحق بي لم يبلغ الفتح”، و أراد ابوعبد الله أن يعود الناس إلى أنفسهم؛ حين قال: “إن لم يكن لكم دين، وكنتم لا تخافون المعاد، فكونوا أحراراً في دنياكم”، وان يعرف الناس موقعهم بالنسبة لأمام زمانهم: “ألست ابن بنت نبيكم”.
إنّ صراع الحق والباطل قائم الى الآن، بل إلى أبد الدهر ولابد أن نكون في جبهة الحق لامحالة، وإلا فالوقوف على التل ليس أسلم، فمعادلات الصراع تفرض علينا الوقوف مع جبهة الحق
وان يذكّر الناس بآخرتهم ودنياهم: “كأن الدنيا لم تكن وكأن الآخرة لم تزل”، وقد بيّن، عليه السلام، منهج مواجهة الطغاة والظالمين، فقال: “إني لا أرى الموت إلا سعادة والحياة مع الظالمين إلا برما”، كما بيّن الفرق بين القيادة الربانية والقيادة المزيفة، بقوله: “مثلي لا يبايع مثله، يزيد شارب الخمر قاتل النفس المحرمة”، ومنهج التمسك بالحق والاباء بالنفس وهو القائل: “والله، لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل، ولا أقر إقرار العبيد”.
وفي ظل هذه الأجواء وهذه المواقف فأنه عليه السلام نعى نفسه أيضا: “خير لي مصرع انا لاقيه”،و “كأني بأوصالي تقطعها عسلان الفلوات بين النواويس وكربلاء”.
فغاية ما نقول: إن قضية الحسين ومعركة الطف لم تكن معجزةً بل كانت امتحانا، بل كانت جولةً أخرى بين الحق والباطل، وكان امضاؤها بمثابة الحجة البالغة على أهل الدنيا ومضمار يكشف فيه الخبيث من الطيب، قال ــ تعالى ــ: {مَّا كَانَ ٱللَّهُ لِيَذَرَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ عَلَىٰ مَآ أَنتُمۡ عَلَيۡهِ حَتَّىٰ يَمِيزَ ٱلۡخَبِيثَ مِنَ ٱلطَّيِّبِ}.
نقول بكلمة؛ إنّ صراع الحق والباطل قائم الى الآن، بل إلى أبد الدهر ولابد أن نكون في جبهة الحق لامحالة، وإلا فالوقوف على التل ليس أسلم، تفرض علينا معادلات الصراع هذه في كل مرة موقفاً ووعياً جديدَين، ولابد أن نتحمّل مسؤولية ذلك، وأن نكون مع الحق؛ أن نكون مع الحسين، عليه السلام، فسفينة الحسين أوسع وفي لُجج البحار أوسع، طوفان موسى أعتى وعلى الأعداء اقسى، فالحسين منهجا للحق وفكرا للأمة ومواجةً للباطل. والسلام.