“من أصلح ما بينه وبين الله أصلح الله ما بينه وبين الناس”
من حِكَم أمير المؤمنين، عليه السلام- نهج البلاغة
كلّ واحد منّا يريد ان يكون سعيداً في حياته من خلال ما يحصل عليه من مال، ومسكن، وعمل، ومرتبة علمية ومهنية مرموقة، وحياة زوجية ناجحة، وهي غريزة في النفس، وهي حقيقة أكدها القرآن الكريم بأن الانسان مُحب للمال والأولاد، وأن يعيش فترة أطول في هذه الحياة، إنما السرعة في الحصول على كل هذا ربما لا تؤدي الغرض المطلوب، بقدر ما تذهب بصاحبها الى ما لا يريد ولا يحب.
وثمة اعتقاد أن السعادة دائماً عبارة عن فرص متناثرة على شريط الحياة، الذكي والفطن هو من يلتقطها سريعاً ليستمتع بالمال والوظيفة والزوجة –أو الزوج- أو أي شيء يستشعر به الانسان أنه سعيد في حياته، ربما صحّت هذه الفكرة في حالات معينة، بيد أن التجارب تقول: السعادة الحقيقية تلك التي توجد علاقة وثيقة بين الحاضر والمستقبل، لا أن تمنح صاحبها مذاقاً طيباً لفترة من الزمن ثم ينتهي ليعود الى دورة البحث من جديد، فهذه ليس من الحكمة بشيء، ولا من العقل والمنطق.
علماء الدِين يرشدوننا الى ما هو هو عقلي ومنطقي، فإن الشمولية والكمال في السعادة تكمن في الارتباط بالكامل المطلق، وهو؛ الله – تعالى ــ فهو الذي يضمن لنا السعادة الحقيقية الدائمة، في الحياة الدنيا وفي الآخرة، وإلا كيف يصح استيعاب ماء البحر في قدح صغير؟!
فعندما نجوع نعتقد أن وجبة غذاء تكفينا، وبعد وقت قصير نستشعر العطش، فنبحث عن شربة ماء، ومن تلتهب في نفسه غريزة الجنس يعتقد أن حصوله على فتاة أحلامه يحقق له السعادة والهناء، لكنه يصطدم بصخرة الواقع، و كون الانسانة الجديدة في حياته تحمل صفات موروثة، وتعود لمنظومة تربوية ربما لا تتوافق معه، وايضاً؛ الفوارق في الآداب والسلوك والتفكير، فتنقلب مشاعر السعادة في اللحظات الأولى من الزفاف والزواج الى مشاعر التعاسة والندم، وهكذا الحال لمن يبحث عن المال والثراء والعمل المرموق، لاسيما في مؤسسات الدولة.
من هنا فان علماء الدِين يرشدوننا الى ما هو هو عقلي ومنطقي، فإن الشمولية والكمال في السعادة تكمن في الارتباط بالكامل المطلق، وهو؛ الله –تعالى- فهو الذي يضمن لنا السعادة الحقيقية الدائمة، في الحياة الدنيا وفي الآخرة، وإلا كيف يصح استيعاب ماء البحر في قدح صغير؟! “إن السعادة الحقيقية تكمن في أن يصل قلب الانسان الى ربّ القلوب، وحبيب النفوس، وأنيس العارفين، وحبيب قلوب الصادقين، فعندئذ يجد القلب مُنتيه، ويرضى إذ يجد بُغيته كما قال الله -تعالى-: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى}، أو تدري ماذا أعطى ربنا -–عالى- لرسول الأكرم، صلى الله عليه وآله، حتى رَضَي؟ لقد منحه نعمة لقائه حينما خاطبه قائلا: {وَمِنْ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً}، وهذه هي الأمنية”، (الوعي الاسلامي- المرجع الديني السيد محمد تقي المدرسي).
وربّ سائل يستفهم سبب وجودنا في الحياة؛ هل هي أن يجلس كل واحد منّا في زاوية يتعبد فيه الله –تعالى ــ ويقضي اوقاته وايامه في الصلاة والدعاء، ولا شأن له بالحياة اليومية وبالعلاقات الاجتماعية؟
قطعاً ليس هذا المقصود، وليس هذا ما يريده الله –تعالى- من عباده المؤمنين، بل يريد لهم الحياة الهانئة والآمنة في محيط الأسرة والجيران والمجتمع الكبير، كما بين وأكد رسوله الكريم في عديد أحاديثه عن ضرورة الحفاظ على النسيج الاجتماعي، إنما المقصود الوصول الى السعادة الحقيقية المتكاملة الأبعاد، ولو بنسبة معينة في هذه الحياة الدنيا من خلال علاقاتنا الاجتماعية، ومن خلال علاقتنا بالسماء في وقت واحد.
والحكمة الرائعة لأمير المؤمنين التي صدرنا بها المقال تهدينا الى الطريق الصحيح للسعادة، فكل فرد في المجتمع والأمة يبحث لنفسه السعادة، بما يعني أننا امام مليارات الطلبات لهذه السعادة، وقد طلبها من سبقنا منذ آلاف السنين، فهل اطمئن الى شخص قريب منّي أن يضحي بما لديه من سعادة من أجلي؟! نعم؛ هذا يحصل عند النخبة في المجتمع، ومن لديهم رسالة خاصة ومنهج خاص في حياتهم، وهم على الأغلب؛ القادة المصلحين والثائرين المتطلعين لتنفيذ مشروع تغييري واسع.
وعليه؛ فان المتصل بالله –تعالى- يروه الناس ليس بأناني، ولا لئيم، ولا معقّد نفسياً، ولا متكبر، فيفسحون له المجال للتعاطي والتبادل في الأفكار والمشاعر والمصالح ليحقق شيئاً مما يريد من السعادة في حياته.
كل ما اتسعت رؤية الانسان في الحياة، كلما اقترب من الله – تعالى- اكثر، فهي من وسائل الوصول والتقرّب، لأنه يستغني عن الصغائر والملهيات ذات العمر القصير
ولا أدلّ على ما مقالتنا من الموت عندما يضرب حجاباً فاصلاً وأبدياً بين الانسان وبين حياته الدنيا ومن فيها من أولاد وأصدقاء، وما حازه من الأموال والعقارات والمناصب، على حين غفلة، يجد الانسان نفسه وحيداً وقد ابتعد عنه أقرب المقربين، والأصدقاء والمحبين لمجرد ان يتمّوا مراسيم الدفن فيعود كلٌ الى داره وحياته الطبيعية، ويبقى هو في حفرته وحيداً إلا من وجود الله –تعالى- فاذا كانت علاقته حسنة كما أراد –تعالى- فهو من الفائزين بالسعادة الأبدية، والعكس بالعكس.
ومن نافلة القول؛ نستذكر الحديث النبوي الشريف: “للصائم فرحتان؛ فرحة عند إفطار وفرحة يوم يلقى ربه”، ربما نفهم ونستشعر الفرحة لحظة الإفطار، وكيف أن الصائم يشعر بلذة المكافأة السماوية على مائدة الإفطار بعد ساعات من الصيام بمواصفاته الكاملة، بيد أن اللقاء بالله –تعالى- تحتاج لفهم خاص للعلاقة المطلوبة والمتكاملة مع السماء، وكيف يجب ان تكون.
كل ما اتسعت رؤية الانسان في الحياة، كلما اقترب من الله –تعالى- اكثر، فهي من وسائل الوصول والتقرّب، لأنه يستغني عن الصغائر والملهيات ذات العمر القصير، ويجد رصيده في الحقائق الكبرى في الحياة، مثل؛ الأخلاق، والإيمان، والعدل، وهي لا تأتي بين ليلة وضحاها، ولا تتحقق، كما يتمنّى الملايين من البشر على مر الدهور، خلال فترة قصيرة وفق رغبات الانسان، بل تحتاج الى الصبر وطول أناة وتجلّد، و{العَاقِبَةُ للمُتَقِينَ}.