في كثير من الأحيان تختلط على الانسان المعايير سواء في تقييمه للآخرين، او تقييمه لنفسه، فلربما رفعَ البعضُ من كان وضيعا، ويضع من كان رفيعا، وفيما يرتبط بنفسه، قد يخدع الانسان نفسه فيرفع نفسه الى مصاف الملائكة بينما هي في الواقع ترتع مع الشياطين.
من الأمور المهمة في حياة الانسان أن يعرف الآخرين ويقيمهم ضمن معايير سليمة، حتى لا يقع في ما لا يحمد عقباه هذا من جهة، ومن أخرى عليه ايضا معرفة نفسه ليضعها الموضوع اللائق بها، وفي هذه السطور نتعرف على المعايير السليمة لمعرفة صدق او كذب الآخرين، وكذلك نعرف إذا ما كنا نحن صادقين أم لا.
مرحلتان تتصلان بالصدق؛ الاولى: ان تعرف مَن هو الصادق ومن هو الكاذب، فهناك معايير يجب ان نتخذها وسيلة لمعرفة الصادقين وتمييزهم عن المنافقين والكاذبين.
الثانية: تتصل بالانسان نفسه؛ اي كيف يعرف انه صادق ام لا! وما هي المعايير السليمة لمعرفة انفسنا؟ ومدى صدقنا او عدمه؟
القرآن الكريم لم يدع شيئا يرتبط بحياة الانسان الدينية إلا وبينه بوضوح؛ بأمثلة، و بيان التاريخ، وكثير من الوسائل التي تشرح هذه المسألة، لان القرآن الكريم ليس هدفه التعليم فقط، وإنما أساس القرآن هو التزكية والتربية، فليس مجرد ان يخبرك بأن الصدق شيء جيد، وإنما تربيتك كيف تكون صادقا.
فيما يرتبط بالأنبياء، عليهم الصلاة والصلاة ــ مثلا ــ من أدلة صدقهم المعاجز؛ القرآن الكريم معجزة كبيرة، فالبشرية منذ أن نزلت آيات القرآن حاولوا ان يأتوا بسورة مثله ففشلوا، وهذا اعجاز مما يعني ان القرآن الكريم صادق.
ومن أدلة صدق النبي الاكرم، صلى الله عليه وآله، والانبياء من قبله، أن الله معهم، فمثلا بنو اسرائيل كانوا مترددين في صدق نبي الله موسى، عليه السلام، لكن حينما نصره الله ــ تعالى ــ المرة بعد الأخرى عرفوا صدقه، فإذا عاندوه فإنما بسبب ما فيهم من عصبية، فعدة مرات اصيبوا بأنواع من العذاب، وكانت نهاية ذلك غرق فرعون.
وكذلك سائر الشواهد في التاريخ كيف ان الله نصرالمؤمنين بصورة اعجازية، وهذا دليل صدقهم.
القصص القرآنية ومنها ــ قصة يوسف ــ يبينها الله لنا لكي نقتدي بمحتواها، ونتعلم كيف نتصرف في اللحظات الحاسمة في حياتنا
من أدلة صدق الأنبياء انهم لا يدْعُون الناس الى انفسهم، بل يدعون الى الله ــ تعالى ــ، فيحن يكذب الانسان إنما من أجل هوى النفس، والانبياء ليسوا كذلك.
وايضا من ادلة صدقهم ــ الانبياء ــ أن كلامهم مع فعلهم واحد، فالنبي الأكرم، صلى الله عليه وآله، كان يأمرالناس بالصلاة، وكان يصلي صلاة الليل التي هي مستحبة على الناس، فأوجبها على نفسه، وكان أكثر الناس عبادة، وهذه الادلة قد تصدق في غير النبي، كالأولياء والصالحين من عباد الله.
أما فيما يرتبط بمعرفة الانسان صدق نفسه فهنالك خارطة طريق، يبينها ربنا وبوضوح.
ثلاثة واجبات تتكامل في حياة المؤمن إذا التزم بها فهو صادق، وإلا يجب ان يشك في نفسه:
الاول: الايمان المستقر في القلب
ذلك ان الايمان نوعان؛ مستقر ومستودَع، فالايمان المستقر لا يتزعزع ولا يختلف في السراء والضراء، وفي الشدة والرخاء، فعلى طول الخط هو إيمان واحد مهما تغيرت الظروف والأحوال.
الثاني: التقوى
معنى التقوى: التمسك بالاحكام الشرعية كلها دون استثناء ومن غير تغيير.
الثالث: الانتماء
فالمؤمن ان يجب ان يحدد موقعه فأين يجب ان يقف، وإذا اردت ان تعرف شخصا لا يحتاج ان تبحث عنه كثيرا، فقط انظر الى من ينتمي، فإذا كان ضمن تجمع إيماني فهو صالح، وإذا كان مع غير المؤمنين فهو بالتأكيد يُشك فيه، ان الطيور على اشكالها تقع.
قال ــ تعالى ــ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ}. وهذه الآية جمعت الامور الثالثة.
بعض الاحيان لا نعرف ان هذا الرجل متقٍ ام لا، ولا نعرف ــ ايضا ــ ان ايمانه مستقرا ام أنه منافق يتظاهر بالايمان، ولكن حينما نعرف انه يمشي مع اعداء فيتأكد انه ليس على ما يرام.
نبي الله يوسف الصديق، عليه السلام، اسمه على مسماه، فهو صديق حقا في كل حركاته، وصدق تجلى حينما رأى برهان ربه، فعوامل الانحراف التي تسبب انحراف الانسان أحاطت بيوسف، وهذا ما يبينه القرآن الكريم: {وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتْ الأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ}، فكان شابا جميلا جذّابا، والتي طلبت منه الفاحشة هي ملكة مصر، فالملك والمرأة والقوة القهرية اجتمعت، لكنّ يوسف عليها السلام، لم ينحرف، لأنه كان صديقا.
والسؤال هنا: ما هو البرهان الذي رآهُ يوسف في تلك اللحظة حينما حاولت الملكة الايقاع به في الفاحشة والرذيلة؟
وكيف نستطيع ان نكون كذلك؟
القصص القرآنية ومنها ــ قصة يوسف ــ يبينها الله لنا لكي نقتدي بمحتواها، ونتعلم كيف نتصرف في اللحظات الحاسمة في حياتنا.
قد لا يكون للإنسان إلا امتحان ساعة واحدة فقط فإما يدخله بسبب الى الجنة، او الى النار، فيوسف الذي تحدى كل ذلك الضغط والاغراء تمسك بالله.
{وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ} وهنا تساؤل: هل يوسف كان يهم ان يفعل الفاحشة مع زليخا؟
المؤمن ان يجب ان يحدد موقعه فأين يجب ان يقف، وإذا اردت ان تعرف شخصا لا يحتاج ان تبحث عنه كثيرا، فقط انظر الى من ينتمي
هنالك تفسيران:
الاول: لولا ان برهان ربه لكان يهمُّ بها، ولذا هرب من الغرفة {وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ} دليل خروجه وهروبه منها.
الثاني: هنالك تفسير آخر يبينه الامام الرضا، عليه السلام، وهو تفسير عظيم، ومفاده: ان يوسف قرر مع نفسه إذا أصرت عليه لارتكاب الفاحشة فإنه سيقتلها.
قال أبو الصلت الهروي، قال: لما جمع المأمون لعلي بن موسى الرضا (عليه السلام) أهل المقالات من أهل الإسلام والديانات من اليهود والنصارى والمجوس والصابئين وسائر أهل المقالات، فلم يقم أحد إلا وقد ألزمه حجته كأنه قد ألقم حجرا.
قام إليه علي بن محمد بن الجهم، فقال له: يا بن رسول الله، أتقول بعصمة الأنبياء؟ قال: بلى. قال: فما تعمل في قول الله عز وجل: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى}، وقوله عز وجل: {وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عليه}، وقوله في يوسف: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا}، وقوله عز وجل في داود: {وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ} وقوله في نبيه محمد (صلى الله عليه وآله): {وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ}.
فقال مولانا الرضا (عليه السلام): ويحك – يا علي – اتق الله، ولا تنسب إلى أنبياء الله الفواحش، ولا تتأول كتاب الله عز وجل برأيك، فإن الله عز وجل يقول: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ}.
أما قوله عز وجل في آدم (عليه السلام): {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} فإن الله عز وجل خلق آدم حجة في أرضه وخليفة في بلاده، لم يخلقه للجنة، وكانت المعصية من آدم في الجنة لا في الأرض تتم مقادير أمر الله عز وجل، فلما أهبط إلى الأرض وجعل حجة وخليفة، عصم بقوله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ}.
وأما قوله عز وجل: { وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عليه} إنما ظن أن الله عز وجل لا يضيق عليه رزقه، ألا تسمع قول الله عز وجل: {وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ} أي ضيق عليه، ولو ظن أن الله تبارك وتعالى لا يقدر عليه لكان قد كفر.
وأما قوله عز وجل في يوسف: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا} فإنها همت بالمعصية، وهم يوسف بقتلها إن أجبرته، لعظم ما داخله، فصرف الله عنه قتلها والفاحشة، وهو قوله: {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ} يعني القتل {وَالْفَحْشَاءَ} يعني الزنا.
{لَوْلا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ} على الانسان في اللحظات الحاسمة في حياته ان يتذكر إيمانه، ولنضرب مثلا واقعيا من حياتنا، فمثلا حين يسافر احدنا وفي جيبه اموالا وفي الحالات الحرجة في سفره لربما يصرف مالا كثيرا لقاء شيء بسيط كشربة ماء مثلا، والانسان المؤمن يجب ان يتذكر ربَّه وإيمانه كلما واجه وضعا حرجا، او موقفا كبيرا.
وهنالك وصف رائع للمؤمنين: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمْ الصَّادِقُونَ}، ايمان مستقر بلاشك، وجهاد في سبيل، ونتيجة لذلك يعطيهم الله وسام الصدق.
علينا ان نبحث عن معايير واضحة ويجب ان تكون أمامنا حينما نريد معرفة الناس الصادق منهم والكاذب؛ وهي: القول يطابق الفعل، وان يكون مع الصادقين، وأن يتمتع بالاستقامة والصبر عند الشدائد.
___
(مقتبس من محاضرة لسماحة المرجع المدرّسي “دام ظله”)