ثقافة رسالية

نهج البلاغة والحياة (48) هل من الممكن أن يكون المرض جيدا؟

قال أمير المؤمنين، عليه السلام، لبعض اصحابه في علّة اعتلّها: “جعل الله ما كان من شكواك حطا لسيئاتك، فان المرض لا أجر فيه، ولكنه يحط السيئات، ويحتها حت الأوراق، وإنما الاجر في القول باللسان، و العمل بالأيدي والاقدام، وإن الله سبحانه يدخل بصدق النية والسريرة الصالحة من يشاء من عباده الجنة”.

الحديث هنا عن ثلاثة اشياء: المرض، والأجر، والنية.

 فيما يتربط بالمرض؛ إذا نظرنا اليه من الناحية الجسدية نجده نافعا، ذلك ان يعطي للجسم مناعة، والانسان الذي لا يمرض في حياته لا مناعة في جسمه، وسيكون من النوع الذي يقضي عليه المرض تماما.

فالامراض بشكل عام ليس كلها سيئة، بل ان البشر قد يُمرض الآخر عبر زرقه بالميكروبات في جسمه لكي يكتسب الجسم مناعة بسبب وجودها في داخل الجسم، والذين لم يصابوا بمرض قط، ستكون في اجسامهم علة معينة قد تقضي عليهم تماما.

كما انه من الناحية الجسمية قد يكون المرض نافعا، كذلك من الناحية الروحية، حيثُ ان الانسان يخرج من المرض اقلُّ غرورا واكثر تواضعا، يقال بأن احد الاسباب لتكبّر فرعون وتجبره على الناس انه خلال أربعين عاما لم يصب بمرض قط، وكان يبيع صحته للناس فكان يقول: لو لم أكن إلآها كنتُ أمرض!

ذلك الذي يصاب بحالة المرض لابد وان يعترف بضعفه، وهنا لا يستطيع ان يقنع نفسه بالتكبّر، قال أمير المؤمنين: “مسكين ابن آدم مكتوم الاجل، مكنون العلل، محفوظ العمل، تؤلمه البقة، وتقتله الشرقة، وتنتنه العرقة”، وهو الانسان: {وَإِنْ يَسْلُبْهُمْ الذُّبَابُ شَيْئاً لا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ}، فبسبب بعوضه يصاب بالملاريا ويقع طريح الفراش ولابد ان يعالج نفسه فترة من الزمن، هذا الانسان سيكون أقل غرورا واكثر تواضعا.

مرض البدن يمكن معالجته لأنه مرض محدود، أما مرض الروح يكون أعمق من البدن، ولذا في الحالتين السلبية والايجابية تكون الروح أعمق في الصفات الحسنة او الصفات السيئة

 إلا ان المرض ليس فعلا اختياريا؛ فالانسان لا يمرّض نفسه، فيكون لا اجر بالاستحقاق، بل تكرّم  من الله عز وجل، فلا يحقُّ لأي إنسان يمرض في الدنيا و يطالب الله بالجنة في الآخرة، وإلا لاحتكر المرضى جنةَ الله كونهم مرضى!

بالنسبة للمؤمنين؛ يجعل الله المرضَ سببا لغفران الذنوب، إذ ان المرض نوع من انواع الابتلاء، وكما لا عقاب بعد العقاب، فلا عقاب بعد المرض، ولانه ابتلاء نجد ان الانبياء، عليهم السلام، حينما كانوا يصابون بمرض يسألون: أي ذنب اقترفناه؟ فالمرض لا يستحق الاجر لكنه حتٌ للذنوب.

ومن ناحية أخرى قد يكون المرض بحد ذاته امتحانا، ليس لغفران الذنوب، فحين تمر بمرض صعب تتعوّد على الصبروهذه نعمة، فالانسان حين يصبح طريح الفراش ويصبر على المرض، تسهل عليه قضايا أخرى لانه اكتسب مزيّة الصبر.

أمير المؤمنين، عليه السلام، يتكلم عن واقع، ليس لتقوية روحية المريض، فحين يعرف المؤمن ان في مرضه حتّا لذنوبه ستكون روحيته قويةً، ومن جملة الامور التي يقوم بها الطب لمعالجة المريض هي تقوية روحيتهُ، لان المشكلة الكبرى ان يستسلم الانسان للمرض، حينئذ لا يحاول جسمه ان يقاوم المرض.

قال امير المؤمنين، عليه السلام: ” الا وإن من البلاء الفاقة، وأشد من الفاقة مرض البدن، وأشد من مرض البدن مرض القلب، الا وإن من النعم سعة المال، وأفضل من سعة المال صحة البدن، وأفضل من صحة البدن تقوى القلب”.

مرض البدن يمكن معالجته لانه مرض محدود، أما مرض الروح يكون أعمق من البدن، ولذا في الحالتين السلبية والايجابية تكون الروح أعمق في الصفات الحسنة او الصفات السيئة، ذلك أن لذة الجسد لحظات، اما لذة الروح فعميقة وتبقى، ومرض الجسد قد يكون اياما، اما مرض الروح يكون اطول من ذلك، فإذا اُصيب إنسان بمرض البخل، او الجبن، او الحسد، وما اشبه، يحتاج الى سنوات ليقضي على هذا النوع من المرض، فمن يكون جبانا لا يصبح شجاعا بين ليلة وضحاها.

بالنسبة للمؤمنين؛ يجعل الله المرضَ سببا لغفران الذنوب، إذ ان المرض نوع من انواع الابتلاء

ولكلمة أمير المؤمنين، عليه السلام، التي صدرنا المقال قصة، فعن عبد الرحمن بن جندب قال: لما أقبل على من صفين أقبلنا معه حتى جزنا النخيلة ورأينا بيوت الكوفة، فإذا نحن بشيخ جالس في ظل بيت على وجهه أثر المرض، فأقبل إليه على ونحن معه حتى سلم عليه وسلمنا عليه. قال: فرد ردا حسنا ظننا أن قد عرفه، فقال له علي: مالي أرى وجهك منكفتا، أمن مرض؟ قال: نعم. قال: فلعلك كرهته.

 فقال: ما أحب أنه بغيري.

 قال: أليس احتسابا للخير فيما أصابك منه؟

 قال:بلى.

 قال: أبشر برحمة ربك وغفران ذنبك، من أنت يا عبد الله؟

 قال: بلى.

 قال: أنا صالح بن سليم.

 قال: ممن أنت؟

 قال: أما الأصل فمن سلامان بن طي، وأما الجوار والدعوة فمن بني سليم بن منصور. قال: سبحان الله، ما أحسن اسمك واسم أبيك أدعيائك واسم من اعتزيت إليه، هل شهدت معنا غزاتنا هذه؟

 قال: لا والله ما شهدتها، ولقد أردتها، ولكن ما ترى بي من لحب الحمى خذلني عنها قال علي: {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}.

 أخبرني ما يقول الناس فيما كان بيننا وبين أهل الشام؟

 قال: منهم المسرور فيما كان بينك وبينهم، وأولئك أغشاء الناس، ومنهم المكبوت الآسف لما كان من ذلك، وأولئك نصحاء الناس لك.

 فذهب لينصرف فقال: صدقت، جعل الله ما كان من شكواك حطا لسيئاتك، فإن المرض لا أجر فيه، ولكن لا يدع للعبد ذنبا إلا حطه إنما الأجر في القول باللسان، والعمل باليد والرجل، وإن الله عز وجل يدخل بصدق النية والسريرة الصالحة من عباده الجنة”.

وكمؤمنين نعتقد بما يلي: أن مرض المؤمن حطٌ لذنوبه، والكافر زيادة في عقابه، فطفل المؤمن الذي لم يبلغ حينما يمرض فإن الله ــ تعالى ــ يحطُّ ذنوبَ الوالدين بذلك المرض، وهنالك روايات كثيرة تدل على ذلك.

في حديث قُدسي: إذا مرض المؤمن أوحى الى المَلك عن شماله: ان لا تكتب على عبدي ما دام في حبسي ووثاقي”.

 وفي حديث قدسي آخر: ما من عبد ابتليته ببلاء فلم يشتكِ الى عوّاده ثلاثا إلا ابدلته لحما خيرا من لحمه ودما خيرا من دمه وبشَرا خيرا من بشره فإذا قبضته قبضته الى رحمته وإن عاش عاش وليس له ذنب”.

عن الصادق (عليه السلام) قال: عاد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) سلمان الفارسي رضي الله عنه فقال: يا سلمان إن لك في علتك ثلاث خصال: أنت قريب من الله بذكره ودعاؤك مستجاب، ولا تدع العلة عليك ذنبا إلا حطته، متعك الله بالعافية إلى انقضاء أجلك.

إن إصابة المؤمن بالمرض سبب حتى يرجع الى ربه؛ لان الشيء المهم في حياة المؤمن هي الجنة والنار، فيسعى الى دخول الجنة، والخلاص من النار، والله يبلتي الانسان بشكل عام والمؤمن بشكل خاص حتى يعود اليه.

__

(مقتبس من محاضرة لآية الله السيد هادي المدرّسي حفظه الله)

عن المؤلف

هيأة التحرير

اترك تعليقا