في أحدى أزقة مدنية كربلاء القديمة يقع محل تجاري لبيع قطع الغيار لاغراض مختلفة، ولأن صاحب المحل كان معروفا لدى الجميع بحسن السمعة الطيبة، فهو مقصد الكثير من الناس لشراء ما يحتاجونه، ومع أن المحل صغير جدا، إلا أن الاقبال عليه كثير نظرا للبضاعة الجيدة التي يجلبها صاحب المحل، بالاضافة الى تحري الأمانة والصدق مع زبائنه.
وكما يقال: صيت السمعة الطيبة يبقى ذكره، فقد بقيت هذه السمعة عند الكثير من الناس، الى إن توفى صاحب المحل، وكذلك بقي الناس يرتادون هذا المحل للشراء منه مع ان الابناء هم الذين يتولون عملية البيع والشراء وما شابه، وشيئا فشيئا سمعت بعض الاصدقاء يشكون ــ أحيانا ــ من المعاملة غير الطيبة التي يتعامل بها الابناء، بالاضافة الى عدم تحريهم الأمانة في مسألة البيع والشراء.
⭐ الغش يهز أركان الثقة بين ابناء المجتمع، ويلغي اواصر التعاون والمحبة بين الناس، وكم هي المشاكل الكثيرة التي تعجّ بها مراكز الشرطة والمحاكم نتيجة الغش والتدليس
قلت في نفسي: ربما ان البعض يحسد الابناء على ما فتح الله عليهم من الرزق، وما ورّثه أبوهم من اموال وعقارات، وفي احد الايام لجأت الى محلهم لاشتري بعض قطع الغيار، وكما وصف لي بعض الاصدقاء ان معاملتهم اختلفت كثيرا عن أبيهم، أخذت حاجتي وغادرت، وبعد اسابيع تبين أن هناك عطب اصاب ما اشتريته منهم، فقررت ارجاعه اليهم، وبعد اللتيا والتي اخذت قطعة جديدة ظنّا مني ان لن تكون كالسابقة، وما هي إلا ايام وعطلت نهائيا، فقررت ارجاعها، في الصباح ذهبت لارجاعها، وكنت أول الواصلين بعد فتح المحل، وإذ أحد الابناء ــ وهو كبير في السن ــ يقرّع العامل ويوبخه بأشد العبارات، بالاضافة الى ان تفوّه ببعض الكلمات غير الاخلاقية ، فقررت المغادرة دون ارجاعها!
كما ان الغش منهي عنه في الدين الاسلامي، وجاءت عشرات الاحاديث من النبي الأكرم، واهل بيته، لتنهى عن هذا الفعل المحرّم، كما هو كذلك، فإن الغش يهز أركان الثقة بين ابناء المجتمع، ويلغي اواصر التعاون والمحبة بين الناس، وكم هي المشاكل الكثيرة التي تعجّ بها مراكز الشرطة والمحاكم نتيجة الغش والتدليس.
ولأجل ردم هذه الفجوة جاء التأكيد الكبير من الشرع المقدس بأن على التاجر قبل أن يتجر ان يتفقه في دينه، لئلا يقع في محرم كالربا، او يتورط في شبهة من الشبهات، عن الأصبغ بن نباتة قال: سمعت أمير المؤمنين عليه السلام يقول على المنبر: يا معشر التجار الفقه ثم المتجر، الفقه ثم المتجر، الفقه ثم المتجر، والله للربا في هذه الأمة أخفى من دبيب النمل على الصفا، شوبوا أيمانكم بالصدق، التاجر فاجر، والفاجر في النار إلا من أخذ الحق وأعطى الحق.
ثم إن الغِش قد لا يكون في سعلة يغش بها التاجر المشتري، بل ربما في نصيحة يخفيها عنه تجاه سلعة من السلع.
وكما ان السلعة المغشوشة تضر بالمشتري من جهة، فإنها تضر بسمعة التاجر البائع من جهة أخرى، فإذا شاع بين الناس ان المحل الفلاني يغش في بضاعته، سترى الكثير يعزف عن الشراء من ذلك المحل، مما يسبب ضررا كبيرا عليه.
⭐ كما ان السلعة المغشوشة تضر بالمشتري من جهة، فإنها تضر بسمعة التاجر البائع من جهة أخرى
عن أبي جعفر عليه السلام قال: كان أمير المؤمنين عليه السلام عندكم بالكوفة يغتدي كل يوم بكرة من القصر فيطوف في أسواق الكوفة سوقا سوقا، ومعه الدرة على عاتقه، وكان لها طرفان، وكانت تسمى السبينة، فيقف على أهل كل سوق فينادي: يا معشر التجار اتقوا الله، فإذا سمعوا صوته ألقوا ما بأيديهم وارعوا إليه بقلوبهم، وسمعوا بآذانهم فيقول: قدموا الاستخارة، وتبركوا بالسهولة، واقتربوا من المبتاعين، وتزينوا بالحلم، وتناهوا عن اليمين، وجانبوا الكذب، وتجافوا عن الظلم، وأنصفوا المظلومين، ولا تقربوا الربا، وأوفوا الكيل والميزان، ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين، فيطوف في جميع أسواق الكوفة ثم يرجع فيقعد للناس. (وسائل الشيعة – الحر العاملي – ج ١٧ – الصفحة ٣٨٣).
بعض التجار بحاجة الى التفقه في الدين، وحينما نقول: التفقه في الدين، لا يعني ان يؤصد التاجر باب دكانه ويذهب لتحصيل العلوم الدينية برمتها، بل المستفاد من روايات أهل البيت، عليهم السلام، و من بحوث العلماء الأعلام ان يتفقه التاجر من الدين ما يخص تجارته، اي يتعلّم الحلال والحرام، وما يتعلق بالتجارة من واجبات ومحرمات ومستحبات، هذا من شأنه ان يقي التاجر من الانزالاق في بعض المحاذير، ومن جهة أخرى ان الله ــ تعالى ــ يبارك في التجارة التي تراعي الموازين الشرعية.