عشنا قبل أيام إحياء مراسيم زيارة العاشر من محرم، زيارة استشهاد الإمام الحسين، عليه السلام، بدءًا من اليوم الأول لشهر محرم وحتى العاشر منه، فلاحظنا عن كثب كيف تغيّرت مدينة كربلاء المقدسة، شوارعها، محالّها، ساحاتها، أحياءها السكنية، وناسها أيضا، التغييرات جاءت على نوعين، الأول مظهري أو يظهر في الشكل مثل ارتداء الناس للملابس ذات اللون الأسود، أو إكساء الجدران و واجهات البيوت والمحال بالأقمشة السوداء، وانتشار لافتات الحزن على أبي عبد الله الحسين وذويه وصحبه شهداء الطف الأبرار.
التغيير الثاني هو ليس ظاهريا أو لا يمكن رؤيته بالعين كما نرى الملابس السوداء مثلا، وإنما هو شيء غير مرئي يتعلق بمشاعر الإنسان ومعنوياته وأفكاره التي غالبا ما تكون باطنية غير مرئية، وكلا النوعين الظاهري والباطني يتشارك في تكوين (ثقافة عاشوراء)، أو أن منبع هذين النوعين يعود إلى ثقافة عاشوراء.
إذن يتغيّر الناس في الأول من محرم حتى العاشر منه، ثم يستمر ذلك طيلة شهريّ محرم وصفر، حيث يعيش محبّو الإمام الحسين، عليه السلام، في ظل ثقافة عاشوراء أجواء غالبا ما تكون مختلفة عن شهور السنة الأخرى، ومن دلائل وعلامات هذه الثقافة، انتشار روح التعاون بين الناس، وإقبالهم على المجالس الحسينية للتزود من ثقافة ومبادئ أئمة أهل البيت، عليهم السلام، ولتعميق قيم عاشوراء التي تسعى لتعمير نفوس البشر وقلوبهم والارتقاء بعقولهم، وبالتالي صناعة بنية اجتماعية ثقافية مبدئية تقوم على التكافل والتعاون وبسط العدالة الاجتماعية وجعلها الرابط المشترك بين الجميع.
⭐ يتغيّر الناس في الأول من محرم حتى العاشر منه، ثم يستمر ذلك طيلة شهريّ محرم وصفر، حيث يعيش محبّو الإمام الحسين، عليه السلام، في ظل ثقافة عاشوراء أجواء غالبا ما تكون مختلفة عن شهور السنة الأخرى
عندما يلبس الإنسان الملابس السوداء في هذين الشهرين، فهو بذلك يريد أن يعلن عن حزنه وهو يستعيد ذكرى الطف هذه الملحمة الحسينية العظيمة التي أعادت للإسلام وجهه وجوهره الحقيقي بعد أن انحدر به يزيد إلى الهاوية، ولا يبق ارتداء السواد هو المظهر الوحيد وليس هو السلوك الوحيد للحسينيين، وإنما يرافق ذلك ما يحدث في دواخل الإنسان، فهو حين يرتدي اللون الأسود، سوف يعيش في نفس الوقت قيم وأخلاقيات ومبادئ عاشوراء، ولهذا نلاحظ بما لا يقبل الشكل تغيّر الناس سلوكاً وتفكيراً وتعاملاً في هذين الشهرين، حتى أن الإحصائيات الرسمية تؤكد انخفاض منسوب العنف والتجاوزات والانتهاكات بمختلف أنواعها إلى نسب قليلة جدا قياسا إلى نسبتها في الأيام والشهور الأخرى.
على ماذا يدل هذا؟ لابد أن هناك تأثيرا جوهريا لثقافة ومبادئ عاشوراء على الناس، كما أننا نلاحظ انشغال نسبة عالية جدا من الشباب في خدمة زوار أبي عبد الله الحسين، عليه السلام، ومشاركاتهم المستمرة ليلاً و نهاراً في تقديم أنواع الخدمات للزوار الكرام عبر المواكب الحسينية، ومن العلامات الواضحة في ثقافة عاشوراء وانعكاسها على الناس، تلك الطريقة السلمية العميقة في التعاملات المتبادلة بين الناس.
الجميع تراه يراعي الناس الآخرين في طريقة تعامله معهم، سواء كان التعامل مادية مثل تبادل الأشياء عبر البيع والشراء، أو طريقة التعامل في أسلوب الكلام والألفاظ، وإبداع المساعدات المتبادلة بين الجميع، هذا هو جوهر ثقافة عاشوراء الذي يسود ليشمل الجميع في هذه الشهرين.
الهدف الأسمى الذي نطمح إليه، نحن الحسينيون، شبابا كنا أو كبارا أو من الفئات العمرية الأخرى، هو أن تستمر وتنتشر ثقافة عاشوراء بالقيم التي مرّ ذكرها في أعلاه، لتشمل أيام وشهور السنة كلها، نعم نحن نطمح أن يسود الخير والتعامل السليم والتكافل وانتشار العدالة الاجتماعية، وانحسار العنف ومختلف الانتهاكات لتشمل شهور وأيام العام كلّه.
⭐ نحن نحتاج إلى ثقافة عاشوراء، وقيم الإمام الحسين، عليه السلام، لأن الأمم كلها تعلن وتسعى اليوم إلى انتشار التعاون والسلام فيما بين أفرادها، وهذا هو جوهر ثقافة عاشوراء التي نحتاج لها حقا
نحن نحتاج إلى ثقافة عاشوراء، وقيم الإمام الحسين، عليه السلام، لأن الأمم كلها تعلن وتسعى اليوم إلى انتشار التعاون والسلام فيما بين أفرادها، وهذا هو جوهر ثقافة عاشوراء التي نحتاج لها حقا، فإذا سادت قيم الإمام الحسين، عليه السلام، وانتشرت ثقافة عاشوراء، سوف نحقق أهم أهداف الإسلام، ألا وهو انشغال الإنسان بتطوير حياته والارتقاء بمستواه العقلي والذهني والسلوكي، وبالتالي الوصول إلى الإنسان النموذجي الذي تتكامل في شخصيته الجوانب المعنوية والفكرية والمادية.
فلا تسود المادة على الفكر، ولا تتفرد النزعات الغريزية وتفرض نفسها على المجتمع خصوصا في عصر العولمة والاستهلاك المنفلت، نحن نحتاج ثقافة عاشوراء بقيمها الحسينية المعروفة لكي نحمي أنفسنا وعقولنا من الموجات الهائلة، الثقافية والفكرية والمادية، غير السليمة وغير النقية بأهدافها وغاياتها، نحن نحتاج لثقافة عاشوراء على مدار العام، حتى نحمي أنفسنا كمسلمين ممن يسعى لاستعمال الفضاء التواصلي المفتوح لتدميرنا.