يقول أمير المؤمنين، عليه السلام: ” وَالْعَدْلُ مِنْهَا عَلَى أَرْبَعِ شُعَبٍ: عَلَى غائِصِ الْفَهْمِ، وَغَوْرِ الْعِلْمِ، وَزُهْرَةِ الْحُكْمِ، وَرَسَاخَةِ الْحِلْمِ”.
لا زلنا في بيان دعائم الايمان من رواية أمير المؤمنين، عليه السلام، الواردة في كتاب نهج البلاغة، كذلك في هذه المقالة نتاول دعامة العدل الذي نبين منه شعبتي “غائص الفهم وغور العلم”، وفي المقال التالي نتناول شعبتي “وَزُهْرَةِ الْحُكْمِ، وَرَسَاخَةِ الْحِلْمِ”.
هناك نوعان من الفهم، ونوعان من العلم، ونوعان من الحكم، ونوعان من الحلم، فليس كل فهم ينبوعا للعدل، وليس لكل علم أساسا لعدالة الانسان، وليس حكم صائبا، وليس كل حلم ضمانة للعدل.
هنالك فهم سطحي ويقابله فهم دقيق، وهنالك علم مسطح ويقابله علم عميق، وهناك حكم متشابَه ويقابله الحكم الصريح، وهنالك الحلم المتكَلَف ويقابله الحلم الراسخ.
⭐ الفهم السطحي للأمور هو ان يراها الانسان ويفهمها؛ يعني رواية الامور لا درايتها
الفهم السطحي للأمور هو ان يراها الانسان ويفهمها؛ يعني رواية الامور لا درايتها، قد يكون هناك انسان حينما يفهم او يحاول ان يتفهم يحاول ان يكون دقيقا، أي ان لا يكون فهمه سطحيا، فعادة حين يعرض عليه أمر يدقق فيه، هذا الفهم ربما يسمى فهما، إلا ان الفهم الذي هو في الحقيقة اساس للعدل هو فهم “غائص” حسب تعبير أمير المؤمنين، عليه السلام، أي فهم يغوص في الاشياء، وهو الذي يسمى في الاصطلاح الشرعي “فقها” فالقرآن الكريم يسمي بعض الامور علما وبعضها فقها.
الفقه لا يعني مجرد الفهم فقط، بل الفهم الغائص، بعض اتباع الانبياء قالوا لنبيهم: لا نفقه كثيرا مما تقول! كان يفهمون، لكن لم يكونوا يفقهون، ولم يكن فهمم دقيقا، يقول ـ تعالى ـ عن بعض الكافرين: {وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً}، فأمثال هؤلاء قلوبهم لا تستوعب؛ الاستيعاب الدقيق هو الفهم الغائص.
الناس على نوعين؛ نوع يسمع كل شيء وينشره أو يحكم عليه، ونوع آخر يغوص فيما فهم، ويتعمق فيما علم؛ فطريقته العمق والغوص.
يقول أمير المؤمنين، عليه السلام: ” اعْقِلُوا الْخَبَرَ إِذَا سَمِعْتُمُوهُ عَقْلَ رِعَايَةٍ لاَ عَقْلَ رِوَايَةٍ، فَإِنَّ رُوَاةَ الْعِلْمِ كَثِيرٌ، وَرُعَاتَهُ قَلِيلٌ”، فهناك انسان يروي، او بعبارة اليوم: شريط كاسيت، فحافظته قوية لكن لا فهم غائص لديه.
ظاهرة يراها شخصان، ولكن واحد منهم يحاول ان يكون دقيقا، فيرى اطراف الظاهرة لا جانب واحد منها، والشخص الآخر لا يتعمق ولا يدقق.
في اعماقك ينبوع للفهم لكن المهم أن تكون أنت دقيقا في فهمك للقضايا، وحينها لن يكون تفكيرك سطحيا، وبالتالي ستصبح عادلا، ولن تكون ظالما؛ فهناك إنسان عندما يسمع اي شيء يصدق ويحكم عليه، وهناك آخر يدقق في أي خبر يأتيه، فلا يتخذ الموقف إلا بعد الفحص والتأمل.
⭐ في اعماقك ينبوع للفهم لكن المهم أن تكون أنت دقيقا في فهمك للقضايا، وحينها لن يكون تفكيرك سطحيا
جاء احدهم الى قاضي وقد فقأت عينه واشكتى على رجل آخر، فأمر القاضي باحضاره تبين فيما بعد أن الشخص الأول فقأ عيني الشخص الثاني! فعلى الانسان ان لا يتسرع بالحكم على الآخر قبل التدقيق ومعرفة الحقيقة الكاملة.
- أنواع العلم:
كذلك العلم نوعين:
- الاول: علم مسطح:
وصاحبه لا يفهم الامتدادات العلمية، عن أبي عبد الله عليه السلام أنه قال: “حديث تدريه خير من ألف حديث ترويه، ولا يكون الرجل منكم فقيها حتى يعرف معاريض كلامنا، وإن الكلمة من كلامنا لتنصرف على سبعين وجها لنا من جميعها المخرج”، لذلك فمعنى الاجتهاد هو الاستنباط، فحين يقف الفقيه أمام رواية لأحد الأئمة يستخرج منها حكما شرعيا، أو اشياء أخرى، أما صاحب الذاكرة القوية الذي بإمكانه حفظ مليون رواية لا يعد مجتهدا ولا فقيها، فالمسألة ليست حفظ معلومات.
- الثاني: العلم العميق
الانسان في هذه الحياة وفي عصرنا الحاضر إنما تقدم في المجال العلمي لانه اصبح دقيقا، “غور العلم” يعني عمقه، فقيمة العلم ليس بسطحه، وإنما حينما يتعمق الانسان فيه.
العدل قائم على أمرين: غور العلم وغائص الفهم، “العالم ينظر بقبله وخاطره والجاهل ينظر بعينه وناظره”، لذلك يقول الله ـ تعالى ـ: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ}، وائمة اهل البيت عليهم السلام يستنبطون من القرآن معارف وحقائق لان للقرآن ظاهر وباطن، فالآية الكريمة: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمْ الْوَارِثِينَ}، جاء في الرواية انه الإمام المهدي، عجل الله فرجه. والعلماء يستنبطون ان الحركة الايمانية هي التي سترث الظالمين بعد زوالهم.
إن الفهم والعلم على نوعين وعلى الانسان ـ حتى يصل الى الحقائق ـ ان يكون علمه وفهمه عميقان، فليس كل فهم يوصل الى الحقيقة، وليس كل علم يجعل الانسان عادلا، لذا فمن أراد أن يكون عادلا في أي جانب من جوانب حياته لابد أ، يكون غائص الفهم، وغائر العلم.
- مقتبس من محاضرة لآية السيد هادي المدرسي (حفظه الله).