ولد خير البشر في 17 ربيع الأول من عام الفيل في مكة المكرمة
- مقدمة نورانية
جميل أن نعلم من أين جئنا، وكيف نعيش، وإلى أين نصير، وهذا ما يُروى عن أمير المؤمنين وسيد الوصيين الإمام علي، عليه السلام، حيث يقول: “رَحِمَ الله امْرَأً عَرِفَ مِنْ أَيْنَ، وَفِي أَيْنَ، وَإِلى أَيْنَ“، فهذه المعرفة أصل المعارف، والمعرفة بالنورانية سنام المعرفة الربانية، فلا بدَّ لمَنْ يبحث عن المعرفة الحقَّة بالرسول الأكرم، صلى الله عليه وآله، وأهل بيته الأطهار من أن يعرفهم بهذه المعرفة، ويعرف لهم هذا الأصل النوراني الذي خلقهم الباري من نور عظمته، فكانوا حججه على خلقه، وأولياؤه على بريته، فاستحفظهم دينه وأنزل عليهم كتابه وجعلهم عيبة علمه وخزائن حكمته، وجعلهم ميزاناً لعلاقة الخلق بالخالق، والمربوب بالرب.
📌 فالدلائل تقول: بأن ذاك النور الأزهر الذي رافق المولد الشريف هو بلوغ رسالته مشارق الأرض ومغاربها، وأنها ستعمُّ الكون بإذن الله تعالى
وهذا ما بيَّنه أمير المؤمنين، عليه السلام، لسلمان وأبي ذر في حديث المعرفة بالنورانية فقال: “لا يكمل المؤمن إيمانه حتى يعرفني بالنورانية، وإذا عرفني بذلك فهو مؤمن، امتحن اللَّه قلبه للإيمان، وشرح صدره للإسلام، وصار عارفاً بدينه مستبصراً، ومَنْ قصَّر عن ذاك فهو شاكٌّ مرتاب.. إن معرفتي بالنورانية معرفة اللَّه، ومعرفة اللَّه معرفتي، وهو الدِّين الخالص.
ثم يقول: “كنتُ ومحمداً نوراً نسبِّح قبل المسبِّحات، ونشرق قبل المخلوقات، فقسَّم اللَّه ذلك النور نصفين: نبي مصطفى، ووصي مرتضى، فقال اللَّه عز وجل لذلك النصف: كن محمداً، وللآخر كن علياً، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وآله: “أنا من علي، وعلي منّي، ولا يؤدي عنّي إلّا أنا أو علي”.
فالحقيقة الكبرى التي يجب أن نعرفها هي أن أول خلق الله كان نور الحبيب المصطفى، في عالم الأنوار قبل الأشباح والأرواح، وهو ما جاء في جوابه لجابر حين سأله وَقَالَ: قُلْتُ لِرَسُولِ اَللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ: أَوَّلُ شَيْءٍ خَلَقَ اَللَّهُ تَعَالَى مَا هُوَ؟ فَقَالَ: نُورُ نَبِيِّكَ يَا جَابِرُ خَلَقَهُ اَللَّهُ ثُمَّ خَلَقَ مِنْهُ كُلَّ خَيْرٍ، وبملاحظة حديث المعرفة العلوية بالنورانية نعرف أن (كل خير) هو نور أمير المؤمنين والأئمة المعصومين الذين خلقهم الله من نوره وجعلهم هداة لخلقه.
- من بركات المولد النبوي
الإنسان يحار ويعجب مما روته كتب التاريخ والسيرة في الظواهر التي رافقت ولادة الحبيب المصطفى محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، وذلك لأنها كانت اسثنائية في هذا الوجود رغم أن كل الأنبياء العظام لاسيما من أولي العزم رافق ميلادهم بعض الأحداث التي يمكن أن يكون فيها نوع من الإعجاز كإبراهيم الخليل، وموسى الكليم، وأما عيسى المسيح فكله معجزة لله تعالى في خلقه، صلوات الله عليهم جميعاً، وأما ما رافق ولادة النبي الخاتم، والرسول الأعظم محمد، صلوات الله عليه وآله، فهي تفوق الإعجاز، وحتى التصور، وتحتار فيها العقول، وبعد كل هذه القرون المتطاولة والكشوفات العلمية الهائلة في عصرنا الرقمي وحضارتنا العملاقة، وفي كل عام يكتشف العلماء أسراراً ويطلع العالم إلى عجائب تلك الولادة المباركة الميمونة.
إذ أن ما المعنى التي نستشفه أو يمكن لنا أن نعرفه أو نتعرَّف عليه من خلال مسألة النور الذي ظهر منه – روحي فداه – في لحظة موله المبارك، وهو من المسائل المشهورة والمشهودة أيضاً في ذلك اليوم حيث روتها أمه المكرَّمة الطاهرة السيدة آمنة بنت وهب فقالت: “لما قربت ولادة رسول الله، رأيتُ جناح طائر أبيض قد مسح على فؤادي فذهب الرُّعب عنِّي، وأُتيتُ بشربة بيضاء وكنتُ عطشى، فشربتها فأصابني نورٌ عال..
ورأيتُ رجالاً وقوفاً في الهواء بأيديهم أباريق، ورأيتُ مشارق الأرض ومغاربها، ورأيتُ عَلَماً من سندس على قضيب من ياقوتة، قد ضرب بين السماء والأرض في ظهر الكعبة، فخرج رسول الله، رافعاً إصبعه إلى السماء.. ورأيتُ نوراً يسطع من رأسه حتى بلغ السماء، ورأيتُ قصور الشامات كأنه شعلة نار نوراً، ورأيتُ حولي من القطاة أمراً عظيما قد نشرت أجنحتها.
وقالت السيدة آمنة: إن ابني والله سقط فاتقى الأرض بيده، ثم رفع رأسه إلى السماء فنظر إليها، ثم خرج مني نوراً أضاء لـه كل شيء، وسمعتُ في الضَّوء قائلاً يقول: إنكِ قد ولدتِ سيِّد الناس فسمِّيه محمداً.
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ آمِنَةَ ابْنَةَ وَهْبٍ قَالَتْ: لَقَدْ عَلِقْتُ بِهِ، يَعْنِي رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ، فَمَا وَجَدْتُ لَهُ مَشَقَّةً حَتَّى وَضَعْتُهُ، فَلَمَّا فَصَلَ مِنِّي خَرَجَ مَعَهُ نُورٌ أَضَاءَ لَهُ مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ إِلَى الْمَغْرِبِ، ثُمَّ وَقَعَ إِلَى الأَرْضِ جَاثِيًا عَلَى رُكْبَتَيْهِ، وَخَرَجَ مَعَهُ نُورًا أَضَاءَتْ لَهُ قُصُورُ الشَّامِ وَأَسْوَاقُهَا، حَتَّى رَأَيْتُ أَعْنَاقَ الإِبِلِ بِبُصْرَى رَافِعًا رَأْسَهُ إِلَى السَّمَاءِ.
عن عثمان بن أبي العاص قال: حدّثتني أمّي أنّها شهدت ولادة آمنة أمّ رسول الله، صلّى الله عليه وآله – ليلة ولدته، قالت: فما شيء أنظر إليه في البيت إلا نور! وإنّي لأنظر إلى النّجوم تدنو حتّى أنّي لأقول ليقعنّ عليَّ، فلمَّا وضعت خرج منها نوراً أضاء له البيت والدّار، حتّى جعلتُ لا أرى إلا نوراً”، وكذلك شهدت أم عبد الرحمن بن عوف التي حضرت أيضاً الولادة الميمونة للرسول الأكرم، والنبي الأعظم (ص).
- دلالات وبشارات
في هذه الوقائع التي رأتها الكرة الأرضية وسماءها ورآها الناس في مكة المكرمة وغيرها من عموم هذا النور الذي أضاء كل شيء، أو أضاء المشرق والمغرب، أو وصل إلى عنان السماء، ألا يعني ذلك البشرى الكبرى بالدِّين الخاتم الذي جاء به، والكتاب الجامع لكل كتب السماء الذي نزل عليه، والشريعة الكاملة، والنعمة التامَّة التي بُعث بها؟
📌 النور الذي أضاء الكون ستكون هي الهداية التي ستنتشر وتعم العالم بإذن الله تعالى، فعموم النور هو شمول الهداية وبلوغ الرسالة وتمكين الدين الإسلامي في الدنيا ليحكم أهل الأرض
نعم؛ إنها بشارة عالمية ذات دلائل كونية على ذلك كله، ولكن أنَّى لأهل مكة والجاهلية أن يفقهوا من ذلك حرفاً واحداً، لأنهم كانوا قد طغوا وبغوا وتجبَّروا وتكبَّروا في الأرض وأسرتهم الأصنام التي نصبوها زوراً وبهتاناً في مركز التوحيد وعلى الكعبة الشريفة وفي البيت الحرام حيث كانوا يعبدون 360 صنماً ثم جعلوا من أنفسهم أصناماً يعبدها العبيد والأرقاء عندهم ولذا تراهم يرفضون التوحيد ودعوته لهم بقوله: “يُعْطُونِي كَلِمَةً يَمْلِكُونَ بِهَا اَلْعَرَبَ، وَتَدِينُ لَهُمْ بِهَا اَلْعَجَمُ، وَيَكُونُونَ مُلُوكاً فِي اَلْجَنَّةِ.. تَشْهَدُونَ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اَللَّهُ، وَأَنِّي رَسُولُ اَللَّهِ فَقَالُوا: نَدَعُ ثَلاَثَمِائَةٍ وَسِتِّينَ إِلَهاً وَنَعْبُدُ إِلَهاً وَاحِداً”.
فالدلائل تقول: بأن ذاك النور الأزهر الذي رافق المولد الشريف هو بلوغ رسالته مشارق الأرض ومغاربها، وأنها ستعمُّ الكون بإذن الله تعالى، وسيحكم الأرض ويطهِّرها من الرجس النجس الشيطان اللعين الرجيم، ويبسط العدل في الحكم، والقسط في المجتمعات حتى يعيش العالم في عيشة الجنان على هذه الكرة الترابية التي ستضجُّ وتعجُّ إلى الله من الفساد الذي سيعمُّ، والإفساد في البلاد والعباد الذي سيطمُّ، كما أخبر القرآن الحكيم في قوله تعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ * قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ * فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ}. (الروم: 43).
وها نحن نرى ونعيش هذا الظهور للفساد في كل شيء، لاسيما سيطرة الطغاة والجبابرة على مقدرات الأرض والسعي فيها بالفساد والإفساد، ولكننا ننتظر أن يخرج حفيد الرسول الأكرم، ووصيه الخاتم الحجة بن الحسن مهدي هذه الأمة وهادي الأمم إلى نجاتها ونزول السيد المسيح وظهور الخضر وغيره ممَّن محضوا الإيمان محضاً ليُطهِّر الأرض من الفساد والمفسدين ويرسي قواعد العدل والقسط في العالمين، ويكون ذلك تحقيقاً لوعد الله لجده الرسول الكريم، وبشارته في يوم مولده الميمون.
فالنور الذي أضاء الكون ستكون هي الهداية التي ستنتشر وتعم العالم بإذن الله تعالى، فعموم النور هو شمول الهداية وبلوغ الرسالة وتمكين الدين الإسلامي في الدنيا ليحكم أهل الأرض جميعاً بالعدل ويُريهم حكم الله فيهم، ويزيل حكم الطغاة والجبارين، ويستاصل الفاسدين والمفسدين من البشر، ويغل الشياطين التي حجبت أيضاً يوم مولده الشريف، فكل هذه الإشارات تحمل بشارات كبرى لذوي البصائر والألباب من البشر.
جعلنا الله منهم، وأنار قلوبنا وعقولنا وبصائرنا بذاك النور الأزهر، وكل عام وأنتم بنور حتى الظهور المقدس لمظهر النور القرآني في العالمين مهدي هذه الأمة، أحبتي.