انتقل إلى الرفيق الأعلى الرسول الأكرم في الثامن والعشرين من شهر صفر الأحزان 11هـ
- مقدمة في الوعي
يقول ربنا ـ سبحانه وتعالى ـ: {لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ}. (الحاقة: 12).
ورد في مسائل علي بن جعفر عَنْ جَابِرٍ اَلْجُعْفِيِّ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ، عَلَيْهِ السَّلاَمُ، قَالَ: جَاءَ رَسُولُ اَللَّهِ، صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ، إِلَى عَلِيٍّ، عَلَيْهِ السَّلاَمُ، وَهُوَ فِي مَنْزِلِهِ فَقَالَ: “يَا عَلِيُّ نَزَلَتْ عَلَيَّ اَللَّيْلَةَ هَذِهِ اَلْآيَةُ: {وَتَعِيَهٰا أُذُنٌ وٰاعِيَةٌ}، وَإِنِّي سَأَلْتُ رَبِّي أَنْ يَجْعَلَهَا أُذُنَكَ اَللَّهُمَّ اِجْعَلْهَا أُذُنَ عَلِيٍّ فَفَعَلَ”.
📌 الوعي هو رأسمال الفرد، والأسرة، والأمة لبناء مستقبل حضاري مشرق
فلماذا خصَّ بها رسول الله، وصيَّه أمير المؤمنين، وما أهمية الوعي في الحياة؟
هذا سؤال هام وضروري واستراتيجي على كل المستويات الشخصية والدولية والإنسانية، وذلك لأن الحياة بلا وعي تعني بأنها بلا مصير واضح، ولا مستقبل بيِّن لها أيضاً.
فالوعي هو رأسمال الفرد، والأسرة، والأمة لبناء مستقبل حضاري مشرق، وإلا فالمصير أسود، والحياة تسير في المجهول، وكأنها في متاهة مظلمة لا يُهتدى إلى الخروج منها، لأنها فاقدة النور، والسائر فيها فاقد البصيرة، والبوصلة لهدايته إلى نجاته.
- خطورة المرحلة
الحياة بالنسبة لأي إنسان إنما هي أيام معدودة في عمر الزمن، ولكنها تكون ذات تأثير كبير جداً على قومه، وعلى المحيطين بهم، وقد تكون على التاريخ والإنسانية جمعاء كما هو الحال بالنسبة لأنبياء الله العظام من أصحاب الشرائع الخمسة من أولي العزم لا سيما الرسول الخاتم، صلوات الله عليهم جميعاً، ووفاة النبي القائد، صلى الله عليه وآله، تشكل صدمة قوية جداً لأمته الذين اعتادوا على وجوده بينهم، كما الأسرة التي يقودها أب حكيم وعطوف كريم والرسول الأكرم كان أكثر من ذلك بالنسبة لأمته الإسلامية التي أوجدها من العدم وأخرجها من الجاهلية الجهلاء إلى بحبوحة العلم ومهَّد لها بناء حضارتها الراقية بين الأمم.
فالفراغ الذي يتركه الرسول القائد ليس بالأمر الهيِّن، أو البسيط الذي يسهل سدَّه على الناس من بعده كما ظنت رجال قريش ومَنْ حولهم، وهذا الفراغ في أذهان وعقول وواقع الأمة لا يمكن ملؤه بسهولة ويسر حتى يقول قائلهم: اختارت قريش ووفِّقت.
وصحيح أنها اختارت ولكن أبداً لم توفَّق ولا حتى ليوم واحد والواقع والتاريخ يشهد على كلامنا وإلا فمَنْ الذي هجم على بيت النبي، وحاول حرقه، وضرب ابنته ووحيدته فيهم وأصرَّ على عملته الشنيعة حتى قتلها بعد أبيها بخمس وأربعين يوم فقط ودفنت ليلاً وعفي قبرها والأمة إلى اليوم لا تعرف لها قبراً، أ ليس ذلك صرخة مدويَّة عبر العصور والدهور: أيها الأمة الظالمة لم توفَّقي لشيء بعد انتقال رسول الله القائد من بينكم.
ولذا لا يمكن أن يكون ما يتناقله القوم أيضاً: من أن الرسول القائد، صلى الله عليه وآله، الحكيم انتقل إلى الرفيق الأعلى ولم يوصِ لأحد من بعده، فهذا يناقض المنطق التاريخي لأننا نرى أن لكل نبي وصي، ولكل حاكم ولي، وعلى كل إنسان أن يوصي من بعده إلا أعظم شخصية في هذا الوجود يترك أعظم رسالة في التاريخ لتلعب بها رجال قريش لتصل بعد عقد من الزمن فقط إلى صبيان النار من أبناء الشجرة الملعونة في القرآن بني أمية حيث كانوا أبغض الخلق إلى الخالق ورسوله فصاروا يحكمون الأمة ليدفنوا الإسلام فيها (لا والله إلا دفناً دفناً) كما كان يصرِّح الطاغية فيها معاوية بن هند، ويثأرون من رسول الله، وأهل بيته وأصحابه ورب العالمين مما جرى خلال حروبهم معهم طيلة عقد من الزمن وهذا ما صرَّح به جهاراً نهاراً يزيد الشَّر أمام أهل البيت الأسارى بعد مجزرة كربلاء الخالدة فقال: لعبت هاشم بالملك..، وجده أبو سفيان قال من قبله: إنما هو الملك ولا أدري ما الجنة والنار تلاقفوها يا بني أمية تلاقف الصبيان للكرة.
- الانحراف البسيط يوصل إلى كارثة
فلو تركوا الرسول الأكرم، صلى الله عليه وآله، يكتب وصيته في يوم الخميس حيث الرزية كل الرزية ما حل بين رسول الله، أن يكتب لنا الوصية العاصمة للأمة من الضلال، كما في حديث الرزية المشهور في كل الكتب الإسلامية، حين اجتمعوا عند رسول الله، قبل شهادته بثلاثة أيام فقط بعد أن عصوه بالخروج في بعثة أسامة بن زيد، فأخرجهم ولعن المتخلف منهم بقوله: “أنفذوا جيش أسامة لعن الله مَنْ تخلف عنه”، فتخلفوا، فأخرجهم بالقوة والشرطة، كما في حديث حذيفة بن اليمان العالم بأسماء المنافقين، فكانت تخرجهم الشرطة في النهار فيهربون ويدخلون المدينة في الليل بعد أن ترسل بناتهم لهم لا تخرجوا من المدينة بل حاولوا أن تحتلوا المسجد وتصلُّوا بالناس حتى تكون لكم حجة عليهم بالخلافة والحكم، وبالفعل فعلوا المستحيل حتى دسوا السُّم لرسول الله، يستعجلون رحيله عنهم حتى يطبقوا خطتهم في الانقلاب على الشرعية الرسالة ويسلبوا حق الوصية من الوصي على الرسالة والدِّين والذي أعدَّه الله تعالى ليسد مكان النبي القائد، ولا يكون في الدِّين ثلمة، ولا في الحياة الاجتماعية طعنة، ولا أحد في الوجود يسد مكان النبي إلا الوصي، ولا مكان الرسول إلا الولي على الأمة.
وخطورة هذه المسألة شكلت خطورة كبيرة في المرحلة الانتقالية للنبي الأكرم عن هذه الدنيا فظن رجال قريش باطلاً أنهم يسدون الفراغ الذي خلفه الرسول القائد، بشخصياتهم الفاقدة لكل مقومات القيادة الدينية والدنيوية إلا اللهم ما كانوا يتمتعون به من خلال شخصياتهم القرشية ولكنهم حتى في هذه كانوا من الأراذل والأباعد ولم يكونوا من القوادم والرؤوس الكبيرة التي تجتمع في دار الندوة ولذا قال عنهم أبو سفيان: ما بالهم جعلوها في أبعد قريش قلَّة وذلَّة، فهو أعلم خلق الله بهم، وبعشائرهم التي كانت ترتجف إذا ذُكر عندها أبو سفيان الأموي، أو عمرو بن هشام المخزومي، أو غيرهم من طغاة قريش المعروفين.
فالأمة الإسلامية وخاصة الأنصار الكرام لم يدركوا خطورة المرحلة التي هم فيها، فلم يتحركوا لنصرة الولي الذي بايعوه في الأمس القريب في غدير خم جميعاً على أنه أولى الناس بهم بعد رسول الله، كما في نص خطبة الغدير وبيعته حين قال رسول الله: “ألستُ أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟ قالوا: بلى، فقال: مَنْ كنت مولاه فهذا عليٌّ مولاه، اللهم والِ مَنْ والاه، وعادِ مَنْ عاده، وانصر مَنْ نصره، واخذل مَنْ خذله”.
فخذلوه رغم استنصاره لهم، واستصراخه مصطحباً زوجته وابناه ويدور عليهم في بيوتهم ويطلب نصرتهم فتخاذلوا، وخرجت فاطمة الزهراء، عليها السلام، رغم جراحها وآلامها وخطبت تلك الخطبة العصماء فيهم جميعاً في مسجد أبيها رسول الله، واستغاثت بالأنصار خاصة حيث قال: “إيها بني قيلة أ أُهضم تراث أبي، وأنتم بمرأى مني ومسمع، ومنتدى ومجمع؟، تلبسكم الذعوة، وتشملكم الخبرة، وأنتم ذوو العدد والعدَّة، والأداة والقوة، وعندكم السلاح والجنة، توافيكم الدعوة فلا تجيبون، وتأتيكم الصرخة فلا تغيثون، وأنتم موصوفون بالكفاح، معروفون بالخير والصلاح”، فهي – روحي فداها – تستغرب منهم هذا الموقف العجيب الغريب، وهذا الخذلان الواضح والنكوص الفاضح لهم عن استجابتها واستغاثتها.
📌 الأمة الإسلامية فقدت الوعي الرسالي، والوعي الدِّيني والإيماني الواقعي، وهي إلى اليوم للأسف الشديد لم تدرك خطورة المرحلة التي يغيب عنها قائدها الحق
فكانوا يتعللون العلل، كقولهم: لو أن زوجك سبق لما عدلنا به غيره من الخلق، فكان أمير المؤمنين، عليه السلام، يقول: “أكنت أترك رسول الله جثة وأنازعهم سلطانه”، فتجيبهم، عليها السلام: “ما فعل أبو الحسن إلا ما ينبغي وهم فعلوا ما الله حسيبهم عليه”، ولكنهم كانوا فاقدين الوعي بخطورة المرحلة التي يقطعونها وأن لها ما بعدها فالانحراف يبدأ بسيطاً قليلاً ولكن مع الزمن يصبح كبيراً وهائلاً ولا يمكن سدَّه حتى ينقلب الأمر 180 درجة فيكون العكس تماماً وهذا ما جرى في المجتمع الإسلامي حيث بدأ الانقلاب على السلطة السياسية فالقوم يريدون الكرسي والحكم، ولكن السلطة وصلت إلى بني أمية فاتخذوا مال الله دولاً، وعباده خولاً، ودينه دغلاً، وحوَّلوا السلطة إلى ملك عضوض، فصار المعروف منكراً والمنكر معروفاً فجمع يزيد الشر وابن زياد اللقيط ثلاثين ألف يدَّعون الإسلام ليقتلوا ابن بنت نبيهم ويسبوا عياله وبناته ويدورون بهم في البلدان دون أن ينكر عليهم أحد.
ولهذا قالت لهم فاطمة الزهراء، عليها السلام، حينما جاءها نساء الأنصار ليعدنها في مرضها التي قبضت به: “ويحهم أنّى زحزحوها عن رواسي الرسالة، وقواعد النبوة والدلالة، ومَهبط الروح الأمين، والطبين (العالم الخبير) بأُمور الدنيا والدِّين، ألا: ذلك هو الخسران المبين، وما الذي نقموا من أبي الحسن”، لم ينقموا على أبي الحسن، عليه السلام شيء.
ولكن هذا هو الوعي الرسالي المفقود الذي حاولت السيدة فاطمة، أن تزرعه في الأمة، فالمسألة ليست حكم وسلطة وانحراف بسيط بل المسألة هي الدِّين، والرسالة، والإيمان، والحساب، والعقاب، والجنة، والنار.
- الوعي المفقود في الأمة
والأمة الإسلامية فقدت الوعي الرسالي، والوعي الدِّيني والإيماني الواقعي، وهي إلى اليوم للأسف الشديد لم تدرك خطورة المرحلة التي يغيب عنها قائدها الحق فيثب عليها متربص ساقط فيسومها الخسف ويمنعها النصف، وتنقاد له انقياد الأمة لسيدها، والضبع لصائده، ولا أحد يأخذ على يده ويقول له: أنت مبطل وظالم، أو ينطق بكلمة حق بوجه سلطان جائر وهي من أعظم الجهاد، ولذا ترى الأمة تعيش بالأوهام والأحلام لا في الواقع الذي يجب أن تكون فيه فتعطي قيادها لأفضلها وسيدها ووصي رسول الله، فيها، فيقودها إلى الحضارة والرقي في الدنيا، وإلى الجنة والخلود فيها في الآخرة.
روحي لك الفداء يا رسول الله ما أعظم مصيبة فقدك وكارثة انتقالك عن هذه الأمة.