استشهد الإمام السجاد ، عليه السلام،في 25 محرم سنة 94 للهجرة أو 95 هـ في المدينة
- مقدمة محزنة
الحزن صار عنواناً لهذا الإمام العظيم الذي اختاره الله لأمر عظيم في هذه الحياة، وذلك لأنه تحالف من الحزن والبكاء منذ أن رأى بأم عينه مآسي كربلاء، وما بعدها من مصائب السبي الذي كان بطلها، وصاحب بابها ومحرابها متقاسماً ذلك كله مع عمته السيد زينب، عليه السلام، أم المصائب، وجبل الصبر الجميل.
- من البكائين الخمسة
عاش الإمام علي بن الحسين السجاد، عليه السلام، بعد مأساة كربلاء ومجزرة عاشوراء 35 سنة بالحزن والبكاء، فقد رُوِيَ عَنِ اَلصَّادِقِعَلَيْهِ السَّلاَمُ، أَنَّهُ قَالَ: “إِنَّ زَيْنَ اَلْعَابِدِينَ (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) بَكَى عَلَى أَبِيهِ أَرْبَعِينَ سَنَةً صَائِماً نَهَارَهُ، وَقَائِماً لَيْلَهُ، فَإِذَا حَضَرَهُ اَلْإِفْطَارُ جَاءَهُ غُلاَمُهُ بِطَعَامِهِ وَشَرَابِهِ فَيَضَعُهُ بَيْنَ يَدَيْهِ وَيَقُولُ: كُلْ يَا مَوْلاَيَ، فَيَقُولُ: قُتِلَ اِبْنُ رَسُولِ اَللَّهِ جَائِعاً، قُتِلَ اِبْنُ رَسُولِ اَللَّهِ عَطْشَاناً، فَلاَ يَزَالُ يُكَرِّرُ ذَلِكَ، وَيَبْكِي حَتَّى يُبَلَّ طَعَامُهُ مِنْ دُمُوعِهِ فَلَمْ يَزَلْ كَذَلِكَ حَتَّى لَحِقَ بِاللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ”.
ولذا عُدَّ من البكائين الخمسة في التاريخ البشري وهم: “آدَمُ، وَيَعْقُوبُ، وَيُوسُفُ، وَفَاطِمَةُ بِنْتُ مُحَمَّدٍ (صلى الله عليه وآله)، وَعَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ (عليه السَّلام)، وَأَمَّا عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ (عليه السَّلام) فَبَكَى عَلَى الْحُسَيْنِ (عليه السَّلام) عِشْرِينَ سَنَةً أَوْ أَرْبَعِينَ سَنَةً، مَا وُضِعَ بَيْنَ يَدَيْهِ طَعَامٌ إِلَّا بَكَى، حَتَّى قَالَ لَهُ مَوْلًى لَهُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ قَالَ: (قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ)، إِنِّي لَمْ أَذْكُرْ مَصْرَعَ بَنِي فَاطِمَةَ إِلَّا خَنَقَتْنِي لِذَلِكَ عَبْرَةٌ”.
وذلك لأن الفاجعة عظيمة، والمأساة مهولة حقاً ورآها بأم عينه البصيرة، وخبرها بمآسيها كلها وما هو أعجب من أنه عندما عاد إلى مدينة جده الرسول الأكرم، صلى الله عليه وآله، وبدل أن يجد العطف والمحبة والمواساة من أهلها وجد الجفاء، والإعراض، والمقاطعة من الأمة فكانت المصيبة عليه أعظم وهو الذي يقول: “مَا بِمَكَّةَ وَاَلْمَدِينَةِ عِشْرُونَ رَجُلاً يُحِبُّنَا”، الله أكبر أي شيء فعله صبيان بني أمية اللعناء بهذه الأمة حتى قلبوها إلى جاهليتها من جديد؟
- أساليب الإمام السجاد، عليه السلام
إذا كان الأمر كذلك والأمة صارت أموية كلها فماذا يصنع الإمام السجاد، عليه السلام، لنفسه لاسيما بعد أن أخرجوا من المدينة عمته السيدة زينب، عليه السلام، وبقي فريداً يصارع مروان الوزغ وزبانيته حيث كان يراقبه ويعدُّ عليه أنفاسه ليُخبر بها يزيد الشر، وجلاوزته اللعناء.
فما كان منه إلا أن يُبدع في طرق التبليغ والتربية ليؤدي رسالته، ومهمته على أكمل وجه فكان منه عدة طرق خفيت على بني أمية ورجال السياسة، وآتت أُكلها في الأمة وأعطت ثمارها ونتائجها المرجوة في تأديب الأمة وتربيتها على نهج الأئمة الأطهار، عليه السلام، منها:
1-أسلوب العبادة: حيث أنه كان يعبد الله ليله ونهاره ويخرج إلى الصحراء ليراه الناس يصلي ويتعلمون منه ذلك، فكان يؤدي رسالته عملياً لأنه ممنوع أن يجلس إليه أحد فكان يُريهم الأعمال الصحيحة بالسيرة العملية له، عليه السلام، ولذا سمِّي بزين العابدين، وسيد الساجدين، وذي الثفنات، وغيرها من الألقاب التي تدلُّ على أسلوب العبادة المتَّبع منه، عليه السلام، كطريقة خاصة بتبليغ الحكام الإسلامية.
2-منهج الدعاء: وهذا المنهج الروحي بالحقيقة أغنى الدِّين الإسلامي حتى قيام الساعة بما أعطاه هذا الإمام العظيم من صحيفته السجادية والمناجاة المختلفة بما يسمى بـ(زبور آل محمد)، وهذا بحد ذاته كان فتحاً من الإمام السجاد لتعليم الأمة بمنهج جديد لم يعهدوه ولم يعرفوه ولم يلتفتوا إليه ألا وهو منهج الدعاء، فكان يذكر كل شيء بالدعاء، من التوحيد والنبوة والملائكة وحتى الدعاء لأهل الثغور ومكارم الأخلاق وكل ما يهم الإنسان المؤمن في هذه الحياة.
3-رسالة البكاء: وهي الرسالة التي لازمت الإمام طيلة حياته المباركة لأنه أرادها أن تكون القضية الحسينية حيَّة في الأمة وتعيشها في كل يوم وهذا ما رسَّخها في الواقع الإسلامي في ذلك العصر وما تلاه فلولم يكن البكاء لنسيتها الأمة لاسيما بعد أن خرجت السيدة زينب، عليه السلام، وماتت السيدة الرباب وبعدها أم البنين.
لم يكتف بذلك الإمام، عليه السلام، بل كان يمشي في السوق فإذا رأى طعاماً يبكي ويقول: “لقد قُتل ابن رسول الله جوعاناً”، وإذا رأى جزاراً يريد أن يذبح الشاة يسأله: “يا هذا هل سقيتها الماء”؟ فقال الجزار: نعم نحن معاشر الجزارين لا نذبح الشاة حتى نسقيها الماء، فيبكى الإمام، عليه السلام، ويصيح: “وا لهفاه عليك أبا عبد الله، الشاة لا تذبح حتى تسقى الماء وأنت ابن رسول الله تذبح عطشاناً”، فكلمات الإمام السجاد، عليه السلام، واضحة لم يقل: أبي، أو ابن علي وفاطمة، بل كان يقول: ابن رسول الله، وكأنه يقول: يا أمة الإسلام هؤلاء الأشقياء ذبحوا ابن نبيكم في كربلاء جوعاناً وعطشاناً.
4-تربية العبيد: وهنا حقاً إبداع عجيب من الإمام السجاد، عليه السلام، إلتفَّ به على كل بني أمية ومرَّر خطته المحكمة دون أن ينتبهوا إليها، بحيث أن الإمام السجاد، عليه السلام، ولأنه ممنوع عليه أن يلتقي أحداً، لدرس، أو مسألة، أو حتى حل مشكلة مستعصية، فكان يذهب ويشتري العبيد، باعتبار أن هذا لا يستطيع أن يمنعه أحد منه في ذلك العصر، ولكنه كان يشتريهم ليس ليستخدمهم بل ليُعلمهم، ويؤدبهم، ويربيهم، لسنة كاملة ثم في ليلة العيد كان يصلي بهم العيد ويخطب بهم ويدعو ويؤمِّنوا على دعائه، ثم يعتقهم جميعاً ليكونوا رُسل خير ودعاة هداية في الأمة.
- تأديب الأمة الإسلامية
فالدارس لحياة الإمام السجاد، عليه السلام، يجد أنه حاول تأديب الأمة على تقاعسها عن نصرة أهل بيت نبيها على أعدائهم الأمويين الذين ساسوهم بأبشع وأشنع سياسة حذَّرهم منها رسول الله، صلى الله عليه وآله، وأمير المؤمنين الإمام علي، عليه السلام، أشد التحذير حتى أن رسول الله، أمرهم بقتل معاوية، وبقر كرشه إن رأوه على منبره بأحاديث كثيرة يروونها فيما بينهم سراً دون الجهر لجبنهم وخوفهم وتخاذلهم، ولذا جاءتهم مصيبة وقعة الحرَّة بعد عاشوراء وكربلاء فاستأصلتهم وأبادت الآلاف منهم وفضحتهم جيوش الكفر اليزيدية حيث استباح المدينة لثلاثة أيام فولدت ألف بكر لا يعرفون آباءهم، ثم دكَّ البيت الحرام وأحرق الكعبة على رأس ابن الزبير وجنوده دون وازع أو رادع.
- تربية الأمة الإيمانية
وهؤلاء كانوا الخواص الذي ثبتوا على الولاء والمحبة لأهل البيت الأطهار، عليه السلام، فراح الإمام السجاد يجمعهم، ويعطف عليهم ويثقفهم ويربيهم على آدابه وأخلاقه ويضخ فيهم كلما يستطيع من العلم والحديث ليكوِّنوا الأرضية التي يصنع منها ولده الإمام محمد الباقر، عليه السلام، المدرسة العلمية التي ستنهض من بعده بإذن الله ـ تعالى ـ.
فهؤلاء الكرام كجابر بن عبد الله الأنصاري، وغيره القليل، ولكن الملاحظ أنهم كانوا إما من الموالي والعبيد أو من بني هاشم الأكارم، ولكن هؤلاء فعلاً كان لهم الأثر الكبير والواضح في إلتفافهم حول الإمام محمد الباقر ، عليه السلام،فيما بعد عصر والده السجاد.
بهذه الطرق والأساليب حاول الإمام السجاد، عليه السلام، أن يُحافظ على خط الرسالة ومنهج النبوة في المخلِصين من الأمة الإسلامية وإن كانوا أقلاء في حضورهم إلا أن الآثار الروحية والعلمية التي تركها الإمام السجاد، عليه السلام، كان لها حضورها في كل العصور والأوقات حتى عصرنا الحاضر فلا تجد بيتاً يخلو من أدعية الإمام السجاد، عليه السلام، وربما لا صلاة أيضاً تخلو من أدعيته ومناجاته الراقية والرائعة، كما أن رسالة الحقوق تشكل دستوراً حضارياً لحفظ الحقوق في الأمة.
كل ذلك كان ببركة وجُهد وجهاد الإمام السجاد ، عليه السلام،في عصر قلَّ الناصر، وكثر الخاذل، ولكنه أبدع حقاً وقال صدقاً وأدَّب الأمة على تخاذلها، وعلم المؤمنين ما استطاع إلى تعليمهم من سبيل إلا أنه جعلهم خميرة لولده العظيم الإمام محمد الباقر، عليه السلام،
السلام على الإمام السجاد وعظم الله أجركم يا مؤمنين.