- مقدمة
في ذلك العصر الرهيب بكل ما فيه من تصرفات إرهابية موجهة إلى أهل البيت الأطهار، عليه السلام، والبقية الباقية منهم بعد مأساة عاشوراء ومصيبة كربلاء التي ما خرج منها إلا الإمام علي بن الحسين زين العابدين بمعجزة وولده الإمام محمد الباقر، عليهما السلام، فترافقا في المصائب والمآسي طلية أربعة عقود من الزمن تقريباً، فكانت السلطات الأموية الظالمة والمجرمة بشخص مروان بن الحكم (الوزغ ابن الوزغ، الملعون ابن الملعون) والي المدينة، ثم خليفة المسلمين، فكان لا شغل له ولا همَّ عنده إلا مراقبة الإمام زين العابدين، عليه السلام، لاسيما بعد أن أخرج السيدة زينب، عليه السلام، من المدينة، وتفرَّغ تماماً لمراقبته، عليه السلام.
فكانت الأمة مضطرة إلى الإبتعاد عن أئمتها تحت ضغط السلطة الأموية فمَنْ تقرَّب إليهم حاربته السلطة، وقطعت رزقه، وأسقطت اسمه من الديوان، وربما هدمت عليه داره، أو حتى قتلته، وقد عبَّر الإمام السجاد، عليه السلام، عن هذه المأساة الحقيقية، بقوله: “ما بمكة والمدينة عشرون رجلاً يحبنا”، ومحبَّتهم فرض من الفرائض، والصلاة عليهم واجبة في الواجبات، وهذا ليس من طريقهم وفقههم بل محمد بن إدريس الشافعي يُصرح ويُفتي بذلك.
- رسالة الإمام الباقر عليه السلام
الباحث في التاريخ الإسلامي يجد أن الإمام الباقر، عليه السلام، كان امتداداً طبيعياً وحقيقياً لأبيه السجاد فقد كانت حياتهما كربلائية عاشورائية، فلربما عاشا لنصف قرن في عاشوراء ولم يخرجوا منها إلا بخروج روحيهما الطاهرتين من هذه الدنيا إلى جنان النعيم، وهذه الملاحظة قلَّما توجه إليها العلماء والخطباء في أحاديثم، ولكن هذا ما وجدته واضحاً في حياتهما، عليهما السلام، لاسيما الإمام السجاد، عليه السلام، لم ينقطع عن البكاء حتى انقطع عنه النفس بسم الطاغية والحاكم الأموي الوليد الذي دسَّ إليه السم لأنه كان يقول: لا يهنأ لي العيش وعلي بن الحسين في دار الدنيا.
ولكن تميَّزت حياة ورسالة الإمام محمد الباقر، عليه السلام، في فترة ولايته التي استغرقت عقدين من الزمن (تسعة عشر سنة) بأنه تفرَّغ لأمور ثلاثة هي محور ولايته، وجوهر رسالته في إمامته وهي:
- تشكيل المدرسة العلمية.
- إعادة جمع الشيعة وتربيتهم.
- الدفاع عن حياض الإسلام ورد الشبهات التي ظهرت والبدع التي انتشرت في عهده صلوات الله عليه.
فهذه المسائل الثلاثة هي ربما تمثل الخطوط العريض لمرحلة وإمامة الإمام محمد الباقر، عليه السلام، وبالعموم كانت إمامته علمية بكل معنى الكلمة وربما كانت كذلك، لأن بني أمية حاولوا بكل جهدهم وكيدهم وظلمهم وبطشهم أن يعيدوا الأمة الإسلامية إلى الجاهلية التي أنقذهم الله منها، فأطفؤوا معالم الفكر والدِّين فضلَّت الأمة عن دينها وكادت أن تندرس عقائدها لولا الإمام محمد الباقر، عليه السلام، الذي شكل المدرسة العلمية وراح ينشر العلوم الدينية ويبقرها ويُعلمها الناس، ونحن لن نستطيع الحديث عن النقاط الثلاثة السالفة الذكر بل سنتناول واحداً منها فقط.
- إعادة جمع الشيعة
ففي ذلك الظرف الحرج على الأمة الإسلامية عامة وعلى الأئمة من آل البيت، عليه السلام، خاصة كان على الإمام محمد الباقر، عليه السلام، أن يُعيد ترتيب البيت الداخلي لشيعته ومحبيه، والمساعدة في تثبيت البيت الخارجي للأمة الإسلامية في عصره لأنه مسؤول عنها كإمام وهي مسؤولة عنه أيضاً كحجة، “فمَن مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية”، فهو يُريد أن تعرفه الأمة بالإمامة وتخضع له ولو بالحد الأدنى بالاحترام والتوقير والمحبة، وربما من هذا المنطلق كانت حركته مع والده الإمام السجاد، عليه السلام، في إنقاذ الدولة الأموية واقتصادها في قصة سك العملة وتحريرها من يد الروم كما هو معروف في التاريخ، كما أن الحفاظ على الاطار العام للأمة الإسلامية وحفظ بيضة المسلمين، وهيبتهم في عيون الأعداء كان له الأثر الكبير من مواقف الإمام الباقر، عليه السلام، في الحركة والنشاط المختلف في مرحلة وفترة إمامته على الأمة.
📌المهمة الأساسية كانت للإمام الباقر، عليه السلام، هي إعادة جمع الشيعة وبلورتهم كتيار علمي وفكري وديني في بداية الأمر، لأن الهدف المعلن كان الحفظ على الدِّين والرسالة من الضياع، ورد الشبهات والدعوات الباطلة
فالمهمة الأساسية كانت للإمام الباقر، عليه السلام، هي إعادة جمع الشيعة وبلورتهم كتيار علمي وفكري وديني في بداية الأمر، لأن الهدف المعلن كان الحفظ على الدِّين والرسالة من الضياع، ورد الشبهات والدعوات الباطلة عنه لاسيما الزنادقة والملحدين الذين كان للإمام الباقر، عليه السلام، مناظرات راقية معهم، فراح يبحث عنهم ويجمعهم وبدأ يدرسهم العلوم الدينية كالفقه والتفسير والكلام وغيره بما عرف بمدرسته العلمية، التي راحت تنمو وتظهر إلى العلن كأقوى تيار علمي وفكري في عصره، بما جمع منهم خاصة.
لأن مدرسة الإمام الباقر، عليه السلام، كانت إسلامية بلا مذاهب لأنها لم تظهر في عصره فكان الجميع يدرسون عنده وإن كانوا من مدرسة الخلفاء القرشيين، أو حتى من أزلام السلطة الأموية، ومنهم مَنْ كان يُعارضه في درسه ويرد عليه ويناقشه فهذا لو اعتقد بإمامته وعصمته ووجوب الأخذ عنه لما جرى منه ما جرى، لأنه كان يؤكد دائماً وأبداً على محورية أهل البيت، عليه السلام، وولايتهم على الأمة الإسلامية، فهو الذي قال: “بُنِيَ اَلْإِسْلاَمُ عَلَى خَمْسٍ عَلَى اَلصَّلاَةِ وَاَلزَّكَاةِ وَاَلصَّوْمِ وَاَلْحَجِّ وَاَلْوَلاَيَةِ وَلَمْ يُنَادَ بِشَيْءٍ كَمَا نُودِيَ بِالْوَلاَيَةِ فَأَخَذَ اَلنَّاسُ بِأَرْبَعٍ وَتَرَكُوا هَذِهِ يَعْنِي اَلْوَلاَيَةَ”.
وقَالَ، عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ، لِسَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ وَاَلْحَكَمِ بْنِ عُتَيْبَةَ: “شَرِّقَا وَغَرِّبَا لَنْ تَجِدَا عِلْماً صَحِيحاً إِلاَّ شَيْئاً يَخْرُجُ مِنْ عِنْدِنَا أَهْلَ اَلْبَيْتِ”.
فأعاد الإمام الباقر، عليه السلام، بحركته العلمية والفكرية والثقافية جمع الشيعة الكرام ولكن لكي لا يختلط الحابل بالنابل، ويدخل الحق بالباطل، أراد أن يُعطي لهم أوصافهم حتى يكون ذلك حصناً لهم يحفظهم ويحميهم من السلطة ومن أن يدخل إليهم مَنْ ليس منهم، فكان يأمرهم ويوصيهم بأعظم وصايا الأنبياء والأوصياء وهي التقوى فيقول: “فوالله ما شيعتنا إلا مَنْ اتقى الله وأطاعه”، وفي عدة أحاديث كان يبين صفات الشيعة حيث يقول، عليه السلام: “إنما شيعة عليّ: المتباذلون في ولايتنا المتحابّون في مودّتنا المتزاورون لإحياء أمرنا الذين إذا اغضبوا لم يظلموا وإذا رضوا لم يسرفوا بركة على مَنْ جاوروا سلم لمَنْ خالطوا”.
وقال، عليه السلام أيضاً:”إنما شيعة عليّ؛ مَنْ لا يعدو صوتُه سمعَه، ولا شحناؤه بدنَه، لا يمدح لنا قالياً ولا يواصل لنا مبغضاً ولا يجالس لنا عائباً.
وقال:”إنما شيعة عليّ؛ الحلماء العلماء، الذبل الشفاه، تعرف الرهبانية على وجوههم”.
وقد أعطى لنا مقياساً عاماً في وصيته لجابر حيث قال، عليه السلام: “يا جابر؛ واعلم بأنّك لا تكون لنا وليّاً حتى لو اجتمع عليك أهل مصرك، وقالوا: إنك رجل سوء لم يحزنك ذلك، ولو قالوا: إنك رجل صالح لم يسرّك ذلك، ولكن اعرض نفسك على كتاب الله؛ فإن كنت سالكاً سبيله، زاهداً في تزهيده، راغباً في ترغيبه، خائفاً من تخويفه، فاثبت وأبشر، فإنه لا يضرّك ما قيل فيك وإن كنت مبائناً للقرآن فما الذي يغرك من نفسك
إلى أن قال: فوالله ما شيعتنا إلاّ من اتّقى الله وأطاعه، وما كانوا يعرفون – يا جابر – إلاّ بالتواضع، والتخشع، والأمانة، وكثرة ذكر الله، والصوم، والصلاة، والبر بالوالدين، والتعاهد للجيران من الفقراء، وأهل المسكنة، والغارمين، والأيتام، وصدق الحديث، وتلاوة القرآن، وكفّ الألسن عن الناس إلاّ من خير، وكانوا أمناء عشائرهم في الأشياء”.
فهذه المقومات والصفات للشيعة وما أسماه علماؤنا بالجماعة الصالحة، الذين أراد أن يُربيهم الإمام ويغرس فيهم تلك القيم الإيمانية حتى يكونوا دعاة لهم بألسنتهم، وأعمالهم لأن ذلك أدعى للتأثير في النفوس والقلوب والتغيير في المجتمع.
- تربية أساطين الشيعة
فإبداع الإمام محمد الباقر، عليه السلام، بعد جمع الشيعة وبلورتهم كتيار فكري وإصلاحي ومجتمع علمي في المجتمع الإسلامي هو تربيته لأولئك الأفذاذ والذين يعتبرون أساطين حقيقية في تاريخ الإنسانية، ومفاخر من مفاخر الشيعة الإمامية، حتى أن الإمام الصادق، عليه السلام، وهو مفخرة المفاخر، وعظيم العظماء يقول عنهم: “ما أحد أحيى ذكرنا وأحاديث أبي، إلا زرارة، وأبو بصير المرادي، ومحمد بن مسلم، وبريد بن معاوية، ولولا هؤلاء ما كان أحد يستنبط هذا، هؤلاء حفاظ الدِّين، وأمناء أبي على حلال الله وحرامه، وهم السابقون إلينا في الدنيا والآخرة.
📌مدرسة الإمام الباقر، عليه السلام، كانت إسلامية بلا مذاهب لأنها لم تظهر في عصره فكان الجميع يدرسون عنده وإن كانوا من مدرسة الخلفاء القرشيين
أو أنه يقول بخصوص زرارة بن أعين هذا الرجل العملاق حقاً: “رحم الله زرارة بن أعين، لولا زرارة لاندرست أحاديث أبي.
فمنهم مَنْ كان يحفظ سبعين ألف حديث، وآخر ثلاثين ألف، حتى أن محمد بن مسلم، الذي قال ابن أبي عمير عنه: سمعتُ عبد الرحمن الحجاج، وحماد بن عثمان، يقولان: “ما كان أحد من الشيعة أفقه من محمد بن مسلم”، هذا الفقيه قال: “ما شجر في قلبي شيء إلا سألت عنه أبا جعفر عليه السلام، حتى سألته عن ثلاثين ألف حديث، وسألت أبا عبد الله عليه السلام عن ستة عشر ألف حديث”.
وعن سليم بن أبي حيَّة، قال: كنتُ عند أبي عبد الله، عليه السلام، فلما أردتُ أن أفارقه ودَّعته وقلت: أحب أن تزوِّدني، فقال: “ائت أبان بن تغلب، فإنه قد سمع مني حديثاً كثيراً، فما روى لك فاروه عني”، ثم قال: وقال له أبو جعفر، عليه السلام: “اجلس في مسجد المدينة وأفت الناس، فإني أحب أن يرى في شيعتي مثلك”. فهؤلاء جميعاً تربية وتعليم الإمام محمد الباقر، عليه السلام، الذي بقر العلم حقاً ونشره بين الناس وإختار منهم الشيعة وحمَّلهم رسالته فكانوا أساطين علم، وعظماء حكم، وجبال حلم، قامت عليهم الحوزات العلمية الشيعية إلى اليوم فما زلنا نعيش على بساطهم الذي مدَّه لهم الإمام محمد الباقر، عليه السلام، منذ قرون وسيبقى ذكرهم ما كر الجديدان الليل والنهار لأنهم رواة وثقات الإمام محمد الباقر، عليه السلام، شبيه جده النبي المصطفى، صلى الله عليه وآله، ومحيي سُنَّته في أمته.