ثقافة رسالية

نهج البلاغة والحياة (8) ايهما أولى: الاستشارة أم حفظ السر؟*

يقول أمير المؤمنين، عليه السلام: “صدر العاقل صندوق سرّه”.(نهج البلاغة – الحِكم القصار).

كلما ازاد المرء عقلا ازداد وعيا، وكلما ازداد وعيا ازداد عمقا، وكلما ازداد عمقا كلما كان أحفظ للسر، ما من إنسان إلا وله اسراره، سواء كان شخصا عاديا، أم كان شخصا يتحمل مسوؤلية، ام كان جزءا من حركة.

حتى الناس العاديين لهم اسرارهم، واسرارهم على قدرهم، فالمهم أن لكل إنسان اسراره الخاصة به، والانسان يظن أنه إذا اودع اسراره لانسان لآخر فسيحفظها، وهذا تصور خاطئ.

صحيح؛ أن البنوك مكان لحفظ الاموال، لكن لا يوجد قلب يستطيع أن تحفظ فيه سرك، ربما أن كلمة الصندوق في هذه الرواية تعبير عن القلوب، ذلك أنه في سابق الازمان كانت الاموال تُحفظ داخل الصناديق، والى الآن لا يزال النصدوق الحديدي هو المكان الذي يحفظ الناس فيه أغلى ما عندهم.

لكن.. أين النصدوق الذي يمكن أن تحفظ فيه سرك؟

لا يوجد أي صدر يكون بديلا عن صدر الانسان نفسه لحفظ الاسرار فيه، كان يقال في المثل: “كل سر تجاوز الاثنين شاع”، طبعا هنا المقصود ليس السر الشخصي، أما السر الشخصي إذا وصل الى اثنين فقد شاع، فالسر الشخصي يجب أن يحفظ في الصندوق الشخصي وهو صدر الإنسان نفسه لا صدر غيره.

في كلمة أخرى لأمير المؤمنين، عليه السلام: “سرّك من دمك فلا يجري من غير اوداجك”. فإن جرى دمك في غير أوداجك فلن يكومن دمك، وأموالك إن وضعت في حساب غيرك، لن تكون هذه الاموال لك انت.

فالمكان الطبيعي لحفظ الاسرار هو صدر الانسان نفسه، لا صدر غيره، وهناك اشارة مهمة في كلام أمير المؤمنين، عليه السلام: “صدر العاقل”، ذلك أن الذي لا عقل له يظن بأن صدره إذا ضاق بسره وأخرج السر، فإن صدر غيره سيكون أحفظ للسر، وهذا تصور خاطئ، لأن الانسان إذا لم يحافظ على اسراره فلن يجد هنالك شخص يحفظ سره، فإن كان صدر الإنسان ضيقا لا يتحمل سرّه، فصدر غيره أضيق وهذا أمر طبيعي.

📌 صحيح؛ أن البنوك مكان لحفظ الاموال، لكن لا يوجد قلب يستطيع أن تحفظ فيه سرك

كلما أصبحت مسؤولية الانسان أكبر كلما كانت اسراره أخطر، فأسرارنا الشخصية نحفظها، فكيف ما يرتبط بحياة الآخرين ومصيرهم؟

بِداءً من الله ـ عز وجل ـ الى الأنبياء والصالحين والثائرين، كلٌ له اسراره لا يكشفها لاحد، يقول الله ـ تعالى ـ عن نفسه: {لايُظْهِر عَلَى غَيْبِهِ أَحَدَاً}، فالله له غيب وسر، وفي آية أخرى يقول ـ عز وجل ـ: {عِالِمُ الغَيبِ والشهَادَةِ}، فلله اسماء وهو ـ تعالى ـ ربما يعطي بعضا منها لبعض الصالحين والاولياء، لكن يبقى هنا اسما واحد احتفظ به لنفسه ـ جل جلاله ـ، ولقد جاء في الرواية: تخلقوا بأخلاق الله”. ولذا يجب أن نتعلم من الله فلا نظهر على غيبنا أحدا.

وهذا لا يمنع من ان نستشير الآخرين، ولا يمنع من ان نثق بهم، فقد يقول قائل: اين اصبحت الثقة؟ وهذا لا يعني أن يجعل الإنسان كل الأمور سرّا، خصوصا إذا كانت أمورا عادية، فالسر هو ما يُعتبر كونه بين الإنسان ونفسه، خاصة إذا كان السر يرتبط بأشخاص، أو عمل، وكشف مثل هكذا سر، يعرّض الإنسان نفسه وغيره للخطر، ولذا فإن الإنسان العاقل هو من يحفظ سرّه سواء كان صغيرا أم كبيرا.


  • مقتبس من محاضرة لآية الله السيّد هادي المدرسي.

عن المؤلف

هيأة التحرير

اترك تعليقا