الموت حقٌ، و{كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ}، ولا بقاء إلا لله، {وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ}، فالحياة مزرعة الآخرة، ومحطة للتزوّد بالعمل الصالح المفيد لصاحبه يوم لا ينفع مالٌ ولا بنون، وكل من يفقد عزيزاً عليه من أفراد عائلته المقربين، او من اصدقائه الأوفياء، او من سائر المؤمنين، فإن الحزن والبكاء والدموع محكومة بزمن محدد.
فالايام والشهور والسنين كفيلة بأن تجعل صاحب المصيبة يعود الى حياته الطبيعية، ولا يبقى من عزيزه المتوفى إلا الصورة والاسم، ثم الترحّم عليه، إنما الحزن والأسى يأخذ شكلاً آخر عندما يكون على انسان بمواصفات معينة، يترك غيابه أثراً في النفوس والقلوب لما تركه من آثار في مجالات عدّة، وبقدر هذه الآثار يبقى ذكر المتوفى وإن تمضي عليه السنين والاحقاب.
جواد السيد سجّاد الرضوي ـ كما كان يحب أن يُذكر في تعريفه بالمجلة- كان من أولئك الرجال الأوفياء للقيم والمبادئ، مضحياً من اجلها منذ نعومة أظفاره.
السيد جواد الرضوي، من أسرة كربلائية عريقة بالنسب والحَسَب، فهي تعود بشجرتها الطيبة الى الامام الرضا، عليه السلام.
فَقَدَ والده وهو صغير السن، بيد أن الحوزة العلمية في كربلاء المقدسة بقيادة المرجع الديني الفذّ، الميرزا مهدي الشيرازي، ومن بعده، ولده البار والمجاهد؛ المرجع السيد محمد الشيرازي، كانت الملاذ والكهف الحصين للسيد جواد وأشقائه، والعديد من الأولاد الذين التحقوا بالمدارس الدينية، واليوم هم من كوادر الحركة الرسالية المعطاءة علماً وفكراً وثقافة.
من أولى مسؤولياته في مشواره الرسالي، معلماً في مدرسة الامام الصادق، عليه السلام، التي أسسها المرجع السيد محمد الشيرازي في كربلاء المقدسة.
روى لي ذات مرة أن وفداً من وزارة التعليم زار المدرسة للحصول على ترخيص رسمي، فدخل اعضاء الوفد الى احد الصفوف ثم خرج يسأل المدير عن المعلم، فقال له المدير: ألم تجدوه؟! ثم أشاروا الى السيد الرضوي وكان حينها شاباً صغيراً، فظنوه أحد التلاميذ!
ومن نافلة القول في هذا السياق، فقد كان السيد المرحوم أحد اساتذة آية الله السيد محمد رضا الشيرازي في تلك الفترة، ونقل لي ذكريات جميلة مع سماحة السيد، وعن دماثة خلقه، وشفافية روحه، و قوة شخصيته.
سياسات التمييز الطائفي، والخوف الشديد من النشاط الاسلامي المنظّم في كربلاء المقدسة وسائر المدن العراقية، والذي بلغ أوجه خلال سني الستينات، جعل الانقلابيون المتسلقون الى قمة السلطة بدعم مباشر من الغرب، لأن يضعوا محاربة كل ما يدعو الى النظام الاسلامي في الحياة، ويستبدلوه بنظام حزب البعث، وركزوا بشدّة على التعليم، فاغلقوا جميع الحوزات العلمية والمدارس الخاصة، ومنها مدرسة الامام الصادق، مما أضطر السيد جواد الرضوي، مع آخرين من اخوانه الرساليين للهجرة والاقامة في دولة الكويت ليعمل هناك بالصحافة والاعلام، وفي فترة لاحقة توجه الى دولة الامارات العربية المتحدة وعمل موظفاً في مديرية الاوقاف الجعفرية قبل أن ينتقل الى العراق بعد الاطاحة بنظام حزب البعث.
وهو في حياة الهجرة كانت جذوة الحب والولاء للإمام الحسين، عليه السلام تتّقد في قلبه، فكانت تلتهب وتنفجر بين فترة واخرى بقصائد عصماء، وإلقاء شجيّ في الحسينية التي أسسها المرجع الشيرازي في الكويت واسماها؛ حسينية الرسول الأعظم، ثم حملت اسم الحسينية الكربلائية.
لم يستقر في كربلاء المقدسة بشكل دائم نظراً لحالته الصحية، فحمل هذه الجذوة والشوق والولاء أينما حلّ وارتحل، فكان يكتب وينشد للإمام الحسين، عليه السلام، و أراه يشدد غير مرة على زيارة الامام الحسين، عليه السلام، ليعبر عن لوعته بعدم الاستقرار الى جوار مرقده الشريف.
مجلة الهدى الورقية ومنذ انطلاقتها الاولى عام 2011 كانت لها الحظوة لان تتعرف على هذه الطاقة الحسينية والايمانية، الى جانب القدرة المهنية العالية، فراح قلمه يضيء ويبدع، وكان الاختيار على حقل القرآن الكريم، ويا له من اختيار دون سائر الحقول، وكان هو صاحب الفكرة الرائعة بتحويل تفسير من هدى القرآن الكريم لسماحة المرجع الديني السيد محمد تقي المدرسي، الى حوار قرآني، على شكل سؤال وجواب، وقد لاقى اعجاباً وتفاعلاً كبيرين من القراء، وهو ما لاحظناه خلال استبيان أجريناه لقراء المجلة.
ترجّل السيد الرضوي عن صهوة القلم بعد تحول المجلة الى اصدار الكتروني، والتنحّي عن الاصدار الورقي، ولكنه – رحمه الله- لم يتخلّ ابداً عن العطاء والنشر على التواصل الاجتماعي بمقطوعات جميلة ومفيدة للغاية منها؛ “فقه اللغة”، أو “التدبر الميسّر”، ينشر فيها كل ما يشكل على القراء والمؤمنين من الكلمات والمفردات اللغوية والقرآنية، فكان يوضح ويبين بشكل مبسّط ورائع.
إنها لخسارة كبيرة لنا ولجميع من يعرف السيد جواد الرضوي، وخَبِر أخلاقه، ولامس عطاءه الوفير، فهو من السابقين ونحن اللاحقون.
نسأل الله التوفيق لما يحب ويرضى.
انا لله وانا اليه راجعون
رحمه الله