يقول أمير المؤمنين، عليه السلام: “الْبُخْلُ عَارٌ وَالْجُبْنُ مَنْقَصَةٌ وَالفَقْرُ يُخْرِسُ الْفَطِنَ عَنْ حُجَّتِهِ وَالْمُقِلُّ غَرِيبٌ فِي بَلْدَتِهِ”.
يعد البخل من الصفات المذمومة؛ عند الله، وعند الناس، لان الانسان البخيل يظن أن عدم انفاقه للمال هو خير له، وهو العكس من ذلك.فالبخيل بماله أجود الناس بعرضه؛ فهو لا يبذل ماله، لكنه يبذل ماء وجهه الأغلى من المال والذي لا يمكن شراؤه، والبخل مذموم، وهو عار في الأعقاب، فالى الآن يُضرب المثل بالأمراء، والملوك، والرؤساء البخلاء.
المنصور الدوانيقي الخليفة العباسي، والذي حكم في زمن الإمام الصادق، عليه السلام، يوصف به البخل، يقال أن الخليفة طلب نجاراً ، وقال له: اصنع لي بابا سريا أرى فيه الحاضرين في المسجد.
يقول النجار: أن المنصور طلب منه ذلك قبل الصلاة، فصنعت له ذلك الباب بسرعة، ولما رآه الخليفة نال اعجابه، واعطاني درهما واحدا لاغير!
وذات مرة مرض المنصور الدوانيقي، فجاءه طبيب وعالجه، وشفي، فأعطاه الخليفة رغيفا من الخبز.
فعلّق الرغيف على رقبه، وذهب يمشي بين الناس، فقالوا له: ما هذا الرغيف؟
فقال: هذه جائزة الخليفة مقابل طبابتي له، وشفائه، وانقاذ حياته.
📌 الصفات السليمة في الانسان هي قوة وطاقة واحدة تظهر بأشكال مختلفة، وكذلك الصفات السلبية حالة نفسية تظهر في صور شتى
وصل الخبر الى المنصور الدوانيقي فطلب الطبيب.
فقال للطيب: أنت لا تستحق رغيف خبز كامل. فأخذ جزء من الخبز وأعطاه الباقي!
التاجر البخيل؛ الذي لا يصرف ماله في سبيل دينه، وشعبه، ومجتمعه، يقول الامام الباقر، عليه السلام: “ما من عبد يبخل بنفقة ينفقها فيما يرضي الله إلا ابتلي بأن ينفق أضعافها فيما أسخط الله”. هذه هي سنة الله في الأرض.
فمجتمع جلّ تجاره بخلاء، فإنه موصم بالعار والشنار، والذلة، ومجتمع تجاره كرماء، فإنه مجتمع سليم، وناجح، ومنتصر.
فالبخل ضد المجد، فالانسان البخيل لا يمتلك مجدا، لان المجد لا يأتي إلا بالعطاء، يقول الشاعر:
لَوْلا المَشَقّةُ سَادَ النّاسُ كُلُّهُمُ
ألجُودُ يُفْقِرُ وَالإقدامُ قَتّالُ(1)
ولذا يقال: كل كريم شجاع، وكل بخيل جبان.
ذلك أن الجبن بذرة داخل النفس الانسانية، هذه البذرة تظهر مرة في صورة عجز، وأخرى في صورة بخل، وهذه كلها بذرة واحدة، ومثل ذلك في الجانب الايجابي؛ كالكهرباء، فهي تعطي الضوء في مكان، والحرارة في مكان آخر، وفي مكان ثالث لها وظيفة أخرى.
الصفات السليمة في الانسان هي قوة وطاقة واحدة تظهر بأشكال مختلفة، وكذلك الصفات السلبية حالة نفسية تظهر في صور شتى؛ منها البخل، فيكون صاحبه جبان، لان الذي لا يعطي ماله هل يعطي نفسه؟
وكفى في البخل الآية الكريمة: {وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ}، يظن الانسان البخيل أن عدم انفاقه للمال هو خير له، وهو العكس من ذلك، فهو في الدنيا لا يهنأ به، فذلك الأب الذي لا يصرف المال في وقته، سيصرفه ابنه على المعاصي.
يقول الإمام الصادق، عليه السلام: “ثلاث اذا كن في الرجل فلا تحرج ان تقول انه في جهنم، الجفاء والجبن والبخل”، وفي حديث عنه، عليه السلام: “شاب سخي مرهق في الذنوب أحب إلى الله عز وجل من شيخ عابد بخيل”.
وعن الإمام الرضا، عليه السلام: “السخي قريب من الله، قريب من الجنة، قريب من الناس، بعيد من النار، والبخيل بعيد من الله، بعيد من الجنة، بعيد من الناس، قريب من النار”.
الدول الكبرى، وكذلك التاجر الكبير لا يبخل، بل يعرف كيف ينفق ماله لتبقى تجارته، لان البخيل لا ينجح في الحياة، وهذه ليست دعوة الى التبذير، بل يجب أن يعرف الانسان؛ كيف يحصل على المال، ويحافظ عليه، وكيف ينفقه، ومن لا يعرف هذه الامور الثلاثة فلن ينجح في حياته، لان البخل خلاف الطبيعة الحاكمة في هذه الارض التي خلقها الله ـ تعالى ـ.
الجود قيمة حضارية،لانه: “لايسود بخيل”، كما في الحديث، وفي رواية أخرى، عن أمير المؤمنين، عليه السلام: “أبخل الناس بماله اجودهم بعرضه”.
- “والجبن منقصة”
وهذه حقيقة من حقائق الحياة، والجبن يعني عدم الاقدام على العمل، ذلك ان حياة الفاشلين هي الفرص الضائعة، وحياة الناحجين هي مجموعة من الاقدامات الموفقة، فلا يظن احد أن الفاشل لا يمر في حياته بفرص الناجح.
الجبن نقص نفسي، واجتماعي، وحضاري، حينما تجد منطلقا فلا تصبّر نفسك، وحين تلقى فرصة فلا تفوتها، وإذا عدنا الى حياة الناجحين في الحياة نجد أن الشجاعة ملازمة لهم في كل شيء.
- هل المطلوب أن نعيش فقراء؟
يقول عليه السلام: “والفقر يخرس الفطن عن حاجته والمقل غريب في بلدته”. ويبدو ان الفقر يأتي نتيجة البخل، والجبن، والعجز، الفقر بالمال لا لون له، إنما يكون بنتائجه؛ فالغنى مطلوب، وكذلك الصحة مطلوبة.
جاء رجل الى امير المؤمنين، عليه السلام، فقال: كيف اصبحت يا أبا الحسن؟
قال: “اصبحت في شر، لانني مريض والصحة خير من المرض، ولأنني فقير والغنى افضل من الفقر”. فلا يظن أحد أن الفقر في الاسلام شيء جيد، بل هو سواد الدارين.
📌 إذا كانت هناك روايات تذم الغنى، فليست متوجهة الى ذم المال، لان المال اساساً لا يُذم، كما السلاح لا يُذم، لأن المال وسيلة
وكل الروايات التي جاءت تمدح الفقر والفقراء، إنما جاءت في أحد موردين؛ نتائج الغنى السلبية، أو أن الكلام موجّه للأغنياء، باعتبار ان الغني يحقّر الفقير، فجاءت الروايات لكي تقول: أن الفقير مكرم عند الله، ففي الحديث القدسي: “الاغنياء وكلائي والفقراء عيالي”.
وصفة الفقير لها نتائج سلبية، وكذلك صفة الغنى لها ـ أيضا ـ نتائج سلبية، فليس المطلوب أن تكون فقير بمعنى أن لا تملك المال، وإنما المطلوب ان لا تكون ـ كإنسان مؤمن ـ في النتيجتين السلبيتين للفقر والغنى؛ لان هناك نفوس إن افتقرتْ كفرت، وإن استغنتْ استعلت، فالمطلوب أن لا تكفر، وأن لا تستعلي، يقول ـ تعالى ـ: {كَلاَّ إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى}.
فإذا كانت هناك روايات تذم الغنى، فليست متوجهة الى ذم المال، لان المال اساساً لا يُذم، كما السلاح لا يُذم، لأن المال وسيلة، فإن استُعملت الوسيلة في شر فهي شر، وان استُعملت في خير فهي خير.
الفقر في المال، والعلم، والفكر..، مذموم عند الله، وعند الناس، والله ـ تعالى ـ لم يخلق هذه الحياة، ثم يقول: لا تستفيدوا منها! بل قال ـ جل وعلا ـ: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنْ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ}، فالله خلق هذه الدنيا كي نستفيد منها، ونمتلك المال، ونستعمله كوسيلة في هذه الحياة.
- مقنبس من محاضرة لآية الله السيد هادي المدرّسي.
(1) ديوان المتنبي