مناسبات

الإِمَامُ جَعفَرُ الصَّادِقُ عليه السلام وَالتَّخَصُّص العِلمِي

  • مقدمة تخصصية

التَّخصص في العلم أمر في غاية الأهمية والضرورة للتركيز العلمي، والدِّقة البحثية، وذلك لأن التخصص يعني التركيز في البحث على إتجاه معيَّن، وزاوية ضيِّقة فتكون النتائج أظهر وأقوى، والتخصص يزيد في الإتقان لكل عمل، ويؤدِّي إلى المهارة الجيدة، والجودة الراقية، والاكتشاف لكل جديد، والاختراع لكل حديث، وهو يحدُّ من الفوضى العلمية، ويُقلل من المدَّعين، ويزيد من المبدعين، ويُكثر من المخترعين، وما أحوجنا لكل ذلك.

فالتخصص هو المسؤول عن اكتشاف المكتشفين، وإبداع المبدعين الذين ينقلون الحياة الإنسانية نقلات نوعية، ويصنعون التاريخ، ويبنون الحضارة، ويُفيدون الإنسان من بعدهم ويخدمونه بشكل يحفر في الذاكرة الاجتماعية، ويصبغون التاريخ بصبغتهم، ويلوِّنون الحضارة بألوانهم الزاهية، وحضارتنا الرقمية اليوم تشهد على ذلك كله، ولسنا بحاجة إلى تعداد الأمثلة فاليوم وفي كل مطلع شمس تُسجَّل براءات الإختراع العالمية كشوفاً جديدة بفضل التطور العلمي، والتقدم التقني، وكل ذلك من بركات التخصص العلمي.

  •  جامعة الإمام الصادق، عليه السلام، الكبرى

وفي التاريخ العربي عامة والإسلامي خاصة لم يشهد التاريخ القديم كله أنهم قاموا بمدرسة علمية كبيرة، بل جامعة علمية كبرى كالتي أنشاها الإمام محمد الباقر، عليه السلام، ثم أكملها وطوَّرها ولده الإمام الصادق، عليه السلام، في المدينة المنوَّرة، فهي بحق جامعة فريدة من نوعها وفي حجمها عبر العصور والدهور، فقد تحدثت كتب التاريخ عن أكثر من اثني عشر ألف طالباً وتلميذاً، وفي وقت واحد أربعة آلاف من مختلف المشارب والمآرب، بحيث أنك تجد شخصاً واحداً يقول: “لو علمتُ أن هذا الحديث يكون له هذا الطلب لاستكثرتُ منه، فإنِّي أدركتُ في هذا المسجد تسع مائة شيخ كل يقول: حدَّثني جعفر بن محمد عليه السلام.

📌 التخصص هو المسؤول عن اكتشاف المكتشفين، وإبداع المبدعين الذين ينقلون الحياة الإنسانية نقلات نوعية، ويصنعون التاريخ، ويبنون الحضارة

 فالأمر ليس سهلاً ولا بسيطاً ولهذا نجد نتائج تلك الجامعة العلمية الكبرى محفوظاً إلى اليوم ومائدته عامرة بحمد الله وفضله، والفقه الإسلامي كله يتغذَّى من تلك المائدة العامرة بالعلم، والفهم، والفقه، والكلام، والتفسير، والعربية، وكل ضروب وأنواع العلم الذي نحتاجه في حياتنا اليومية، ونهضتنا الحضارية المنتظرة بإذن الله تعالى.

  • التخصص العلمي في الجامعة الصَّادقية

ومن أبرز معالم وخصوصيات تلك الجامعة العلمية الكبرى التي كان ويرعاها الإمام جعفر بن محمد الصادق، عليه السلام، كان التخصص في العلوم، وفي الحقيقة ما كانت لتتقدَّم وتتطوَّر وتُعرف بهذا الشكل النموذجي لولا التخصص الذي عرف أهميته الإمام، عليه السلام، فيها، فجعل ينظر إلى طلابه بعين فاحصة، ويختار لكل منهم ما يُناسبه ويُلائم طبعه من التخصصات العلمية ليبرع فيها، ويتقدَّم بشكل مطَّرد بحيث بتفوَّق على أمثاله، بل ويكون الجميع من عياله في اختصاصه وتخصصه العلمي.

 والعجيب أن الإمام الصادق، عليه السلام، أعطاهم العلم حتى تميَّزوا به، ثم أعطاهم الثقة المطلقة بحيث كان يقول لقاصده الشَّامي: “إنْ غَلَبتَ حِمْرَانَ فَقَد غَلَبتَنِي”، فأي ثقة تلك التي كان يمنحها لطلابه، وشيعته المخلصين الإمام الصادق، عليه السلام، بحيث يُنزلهم بمنزلة نفسه الشريفة.

ومن عجيب ما يروي تاريخ تلك الجامعة الراقية في أنواع التخصصات بحيث أن الإمام كان يفرح، ويضحك حتى تظهر نواجذه في بعض المجالس مما يرى من حذاقة وعلم أصحابه، فلا يدعوا لهم مجالاً، إلا أن يعترفوا بالتقصير والعجز.

 ومن تلك المجالس العلمية التي حضرها يونس بن يعقوب فقال: كنتُ عند أبي عبد الله الصادق،عليه السلام، فورد عليه رجل من أهل الشام، فقال له: إني رجل صاحب كلام، وفقه، وفرائض، وقد جئتُ لمناظرة أصحابك؟ فقال له أبو عبد الله، عليه السلام: كلامك هذا من كلام رسول الله، صلى الله عليه وآله، أو من عندك

فقال: من كلام رسول الله بعضه، ومن عندي بعضه؟

فقال له أبو عبد الله عليه السلام: فأنت إذن شريك رسول الله فقل: لا.

قال: فسمعت الوحي عن الله. قال: لا.

قال: فتجب طاعتك كما تجب طاعة رسول الله قال: لا.

 فالتفت أبو عبد الله، عليه السلام إليَّ فقال: يا يونس بن يعقوب، هذا قد خصم نفسه قبل أن يتكلم، ثم قال: يا يونس، لو كنت تحسن الكلام لكلمته. وهنا مربط الكلام بالتخصص لو لاحظت ذلك.

قال يونس: فيا لها من حسرة، ثم قلت: جعلتُ فداك، سمعتُك تنهى عن الكلام وتقول: ويل لأصحاب الكلام، يقولون هذا ينقاد وهذا لا ينقاد، وهذا ينساق وهذا لا ينساق، وهذا نعقله وهذا لا نعقله.

فقال أبو عبد الله، عليه السلام: إنما قلت: ويل لقوم تركوا قولي وذهبوا إلى ما يريدون، ثم قال:اخرج إلى الباب فانظر مَنْ ترى من المتكلمين فأدخله، يتركون قول الأستاذ اليقينية، ويذهبون إلى أقوالهم المظنونة، والإمام، عليه السلام، يُريد منهم ومن حواراتهم الحق بلا شك ولا تردد.

قال: فخرجتُ فوجدتُ حمران بن أعين – وكان يُحسن الكلام – ومحمد بن النعمان الأحول (مؤمن الطاق) – وكان متكلماً – وهشام بن سالم، وقيس الماصر – وكانا متكلمين – فأدخلتهم عليه، فلما استقرَّ بنا المجلس – وكنا في خيمة لأبي عبد الله، عليه السلام، على طرف جبل في طرف الحرم، وذلك قبل الحج بأيام – أخرج أبو عبد الله رأسه من الخيمة، فإذا هو ببعير يخب (يضرب الأرض بعدوه) فقال: هشام ورب الكعبة.

قال: فظننا أن هشاماً رجل من ولد عقيل كان شديد المحبة لأبي عبد الله، فإذا هشام بن الحكم قد ورد، وهو أول ما اختطت لحيته، (أي أنه شاب في مقتبل العمر)، وليس فينا إلا مَنْ هو أكبر سناً منه، قال: فوسَّع له أبو عبد الله، عليه السلام، وقال: ناصرنا بقلبه، ولسانه، ويده.

وكأن الإمام الصادق، عليه السلام، لم يكتفِ بكل أولائك الأعلام الكبار من أصحابه من المتكلمين وفطاحل العلماء، بل كان ينتظر هشام بفارغ الصبر، ولذا أخرج رأسه الشريف من الخيمة واستبشر بهشام حيث قال: هشام ورب الكعبة، وما ذلك إلا لعلمه بأن هشام من أهل التخصص في الكلام الذي لا يُبارى ولا يُجارى فيه، وهو صاحب القصص المعروفة.

  والعجيب أن الإمام الصادق، عليه السلام، كان بعد كل جلسة حوارية تجري في مجلسه الشريف وفي حضرته المباركة؛ يقوم بنقد وتقييم للجميع فيُصوِّب الصائب منهم ويشدُّ على يديه، ويُعلم المخطئ بخطئه ويدلَّه على الصَّواب الصحيح، ولذا تراه في مجلس من مجالسه الحوارية العامرة يقول: فأقبل أبو عبد الله، عليه السلام، على حمران بن أعين فقال: يا حمران، تُجري الكلام على الأثر فتُصيب.

وإلتفت إلى هشام بن سالم فقال: تُريد الأثر ولا تعرف.

ثم إلتفت إلى الأحول، فقال: قيَّاس روَّاغ، تَكسر باطلاً بباطل، إلا أن باطلك أظهر.

ثم إلتفت إلى قيس الماصر فقال: تكلم وأقرب ما تكون من الخبر عن الرسول، صلى الله عليه وآله، أبعد ما تكون منه، تمزج الحق بالباطل، وقليل الحق يكفي من كثير الباطل، أنت والأحول قفَّازان حاذقان.

قال يونس بن يعقوب: فظننتُ والله أنه يقول لهشام قريباً مما قال لهما، فقال: يا هشام، لا تكاد تقع، تلوي رجليك إذا هممت بالأرض طرت مثلك فليكلم الناس إتَّق الزَّلة، والشفاعة من ورائك”. (الإرشاد للمفيد: ج ٢ ص ١٩٨).

📌 من أبرز معالم وخصوصيات تلك الجامعة العلمية الكبرى التي كان ويرعاها الإمام جعفر بن محمد الصادق، عليه السلام، كان التخصص في العلوم ب أنواعها المختلفة

هكذا كان يُعلِّم الإمام جعفر، عليه السلام، أصحابه في جامعته العلمية والتخصصية، فكان فيهم الفقيه، والمحدِّث، والفيزيائي، والكيميائي، واللغوي، والمفسر، والمتكلم، وكانوا يتميَّزون بهذه العلوم بحيث قال الإمام الصادق، عليه السلام يوماً: “إذا غلب عالمهم جاهلنا فلسنا على حق”، وفي كلمة أخرى إذا لم يغلب جاهلنا عالمهم فليس منَّا، وذلك لتخصصهم في جامعته العلمية المباركة.

ومن أبرز الذين نقلوا الرواية عن الإمام، عليه السلام: زرارة بن أعين، وأبو بصير، ومحمد بن مسلم، وبرير بن معاوية، وقد ثمَّن الإمام هذه الجهود وقدرها فقال بحق بعضهم ثناءً مازال متناقلاً كقوله لزرارة: “رحم الله زرارة بن أعين، لولا زرارة لاندرست آثار النبوة وأحاديث أبي”. وكان يحفظ ثلاثين ألف حديث عن الإمام الصادق، عليه السلام. 

وقوله ، عليه السلام، لفيض بن المختار: “فإذا أردت حديثاً فعليك بهذا وأشار إلى زرارة”.

وعن ابن أبي عمير، عن شعيب العقرقوفي قال: قلتُ لأبي عبد الله، عليه السلام، ربما احتجنا أن نسأل عن الشَّي‏ء فمَنْ نسأل؟ قال، عليه السلام: “عليك بالأسدي”،يعني أبا بصير.

وعن أمية بن علي عن مسلم ابن أبي حية، قال: كنتُ عند أبي عبد الله، عليه السلام، في خدمته، فلما أردت أن أفارقه ودَّعته وقلتُ: أحب أن تزوِّدني، قال: “أئت إبان بن تغلب، فإنه قد سمع مني حديثاً كثيراً، فما روى لك عني فاروه عني”. وأخيراً؛ لا أحد يُنكر أثر التخصص في تلك الجامعة العلمية الكبرى في التاريخ الإسلامي والإنساني عامة كزرارة بن أعين المحدِّث، ومحمد بن مسلم الرَّاوي، وهشام بن الحكم المتكلم، وجابر بن حيان الكوفي الكيميائي، بل أبو الكيمياء كلها الذي كتب خمسمائة رسالة في ألف صفحة عن الإمام الصادق، عليه السلام.

عن المؤلف

الحسين أحمد كريمو

اترك تعليقا