ذكرني منظر من يفترض بهم “مسؤولين” في الدولة العراقية، وهم يتقاطرون على “قصر المشرّف” في أبوظبي لتقديم واجب العزاء بوفاة رئيس دولة الامارات العربية المتحدة؛ الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان، بالدعوات التي تصل الى الآباء لمناسبة عزاء أو فرح، ثم يرفقونها بـ “ياريت تصطحب الأولاد معك”! ربما بعض الأولاد، لاسيما المتزوجين حديثاً يشعرون بشيء من الامتعاض لعدم تخصيص دعوة خاصة لهم، كونهم يشعرون أنهم صاروا كباراً و”صاحب عائلة”.
هذه المشاعر في الكيان العائلي، أما في كيان كبير مثل الدولة العراقية نجد ـ للأسف- من يجعله من “المسؤولين” مثل تلك العائلة التي تذهب بجميع الأولاد الكبار في السنّ الى مناسبة رسمية، ففي حين يمثل كل بلد بالعالم شخصية واحدة على رأس الوفد بانضمام شخصيات أخرى في مناسبات كهذه، فان العراق يمثله أكثر من رأس؛ رئيس جمهورية، ورئيس وزراء، ورئيس برلمان، وهذا “الرئيس” يجلس في كرسي مُنيف يطلّ على نواب انتخبناهم العام الماضي!
منظر يغرز في قلوب العراقيين مشاعر الأسى والحزن على موت هيبة البلد الذي ضحى من أجل استقلاله وتقدمه خيرة الشباب المؤمن منذ ثورة العشرين ضد الاحتلال البريطاني، ومروراً بمقارعة الانظمة البديلة للاحتلال والعميلة للتحالف الانكلواميركي فيما بعد.
كان خريجوا الجامعات في العقود الماضية يطرقون أبواب طوكيو وأوربا والولايات المتحدة حاملين العلم العراقي ليصبحوا فيما بعد علماء في اختصاصات طبية نادرة، وعلماء في هندسة البناء، والطاقة الذرية، واقتصاديات النفط، والبيئة، والأحياء المجهرية، واليوم؛ مجرد وجودهم في هذه المؤسسة البحثية، او تلك المستشفى، او ذلك المعهد الدراساتي الدولي، يمثل بصمة عظيمة باسم العراق رغم أنهم يحملون جنسية البلد الذي يقيمون فيه، فهم عراقيون، أما من يعدون أنفسهم ساسة البلد بأسماء كبيرة فقد قاموا باقتطاع كل جزء منه وحمله الى الإمارات ليرى الأخوة في هذا البلد العراق على شكل أجزاء صغيرة تعود لانتماءات مختلفة.
ولابد من التذكير بأن هذا السلوك الطبيعي جداً عند الذاهبين لمراسيم التعزية الى أبوظبي، مردّه الى القالب الذي أعيد فيه صناعة الدولة العراقية بعد الاجتياح الاميركي للعراق عام 2003، فقد ورث الاميركيون من بريطانيا أهم فقرة في هذا القالب، وهي استحالة قيادة العراق من أهله، ولا أشك أنه القسم البريطاني منذ صدمتهم المدوية بثورة العشرين بقيادة المرجع الديني الشيخ ميرزا محمد تقي الشيرازي، بعدم السماح لظهور قيادة صالحة وموحدة لهذا البلد، ويكون الفشل حليف أي نظام سياسي يجربه العراقيون.
هذا ليس من دواعي اليأس مطلقاً في بلد يعجّ بالعلماء والحكماء والمسؤولين الحقيقيين لأن يتحملوا مسؤوليتهم الحضارية والتاريخية أمام الناس والاجيال القادمة بعدم السماح بعد اليوم لأي شخصية عراقية استقبال زائر اجنبي بصورة رسمية، أو ان يقوم أي مسؤول بزيارة خارجية بصفة رسمية ايضاً، فهذه من مهام وزارة الخارجية، هي التي تستقبل الوفود القادمة من الخارج، وهي التي تتكفل بالجولات الخارجية رعياً للمصالح الوطنية، حتى تعرف دول العالم؛ القريبة منها والبعيدة، أن ثمة بلداً موحداً بمكوناته الاجتماعية، واجزابه السياسية، اسمه؛ العراق، المعروف قديماً منذ فجر التاريخ، وليس مثل بعض الدول المولودة حديثاً، وانه جدير بالاحترام والتبجيل كبلد مؤثر وفاعل في المنطقة والعالم.