أسوة حسنة

صلح الإمام لحسن.. سِلْمٌ أم سَلَم؟

📌 الولادة الميمونة

دخل النبي، صلى الله عليه وآله، على خديجة يوماً وكانت لمّا تلد بفاطمة، فوجدها تحدّث ابنتها وهي في بطنها، فقال يا خديجة، إنَّ الله تعالى بشرني بأنّها أنثى، وأنَّ الله سيجعل نسلي منها.

ومنذ ذلك الحين، والنبي ينتظر البشارة من الله تعالى، بذريّته الطاهرة، التي قال عنها تعالى: {إنا أعطيناك الكوثر}، حتى جاء العام الثالث بعد هجرته المباركة لتأتيه البشارة الإلهية في منتصف شهر الله، شهر الخير والعطاء، شهر رمضان، يا رسول الله! قد ولد لك سبطك الأكبر.

تلألأ وجه النّبي، صلى الله عليه وآله، فرحاً وسروراً، وكيف لا يفرح وهذا سيد شباب أهل الجنة، و ريحانة النبي من دنياه، ذلك الذي كان يحمله على كتفه ويقبله هو وأخيه ويقول: “اللَّهُمَّ أَحِبَّ حَسَناً وَ حُسَيْناً وَ أَحِبَّ مَنْ يُحِبُّهُمَا“، فهذا الحسن قد ولد.

جاء النبي صلى الله عليه وآله، ودموع الشوق في عينيه، فلم يهدأ له بال، حتى أخذ المولود في حجره ولبّاه بريقه، وأذن في اذنه اليمنى وأقام في اليسرى.

🔶 الحَسَن تجلّي الحَسَن في حياته، فلا تنظر إلى جانب من حياته إلّا وتجده فيه تجلياً للحُسن

عليٌ وفاطمة ينظران ما يفعل النبي بسبطه، والبهجة تملأ كيانهما، فالتفت النبي إلى أمير المؤمنين قائلاً: “بِأَيِّ شَيْ‏ءٍ سَمَّيْتَ ابْنِي هَذَا“؟ قال الأمير وهو الذي يتّبع النّبي إتّباع الفصيل إثر أمه: “مَا كُنْتُ لِأَسْبِقَكَ بِاسْمِهِ يَا رَسُولَ اللَّه‏“.

لا ريب أن هذه العطيّة الإلهية لا تكتمل حتى يختار الرب من فوق عرشه إسماً له، فنزل الأمين جبرائيل حاملاً التهاني من الله والسماوات، وقال: “يَا مُحَمَّدُ الْعَلِيُّ الْأَعْلَى يُقْرِئُكَ السَّلَامَ وَ يَقُولُ لَكَ عَلِيٌّ مِنْكَ بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى- وَ لَا نَبِيَّ بَعْدَكَ- فَسَمِّ ابْنَكَ هَذَا بِاسْمِ ابْنِ هَارُونَ”، فقال النبي صلى الله عليه وآله: “مَا اسْمُ ابْنِ هَارُونَ يَا جِبْرِيلُ“، قال: “شَبَّرُ”، فقال النبي لساني عربي، فقال: “سَمِّهِ الْحَسَنَ”، وهكذا جاء الحسن بن علي بن أبي طالب، عليهم السلام.

📌 عن الحسن اتحدّث اليكم

الحَسَن تجلّي الحَسَن في حياته، فلا تنظر إلى جانب من حياته إلّا وتجده فيه تجلياً للحُسن، كيف لا وهو أفضل من خُلق بعد أمه وأبيه وجده، فقد سأل هشام بن سالم الإمام الصادق، جعفر بن محمد، عليهما السلام، أيهما أفضل الحسن أم الحسين؟

فقال عليه السلام: “الحسن افضل من الحسين”.

🔶 هل يجوز لنا أن نتحالف اليوم ـ بعد تحقيق الهدف المطلوب ـ مع من نشاء كيفما نشاء، أم أنَّ هناك شروطاً وخطوطاً حمراء يجب أخذها بعين الإعتبار؟

فقال: فكيف صارت الإمامة من بعد الحسين في عقبه دون ولد الحسن؟

فقال: “إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَ تَعَالَى أَحَبَّ أَنْ يَجْعَلَ سُنَّةَ مُوسَى وَ هَارُونَ جَارِيَةً فِي الْحَسَنِ وَ الْحُسَيْنِ عليهما السلام، أَلَا تَرَى أَنَّهُمَا كَانَا شَرِيكَيْنِ فِي النُّبُوَّةِ كَمَا كَانَ الْحَسَنُ وَ الْحُسَيْنُ شَرِيكَيْنِ فِي الْإِمَامَةِ وَ إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَ جَلَّ جَعَلَ النُّبُوَّةَ فِي وُلْدِ هَارُونَ وَ لَمْ يَجْعَلْهَا فِي وُلْدِ مُوسَى وَ إِنْ كَانَ مُوسَى أَفْضَلَ مِنْ هَارُونَ”.

📌 الإقتداء بالإمام الحسن، عليه السلام

إذا أردت الإقتداء بالإمام في حياتك، فستجد أنّه لم يترك لك جانباً إلّا وقد ملأ فيها مكان الصدارة، فكان الإمام في القمّة.

ففي رفيع أخلاقه أنظر كيف يجازي المرأة التي كسرت قدم شاته تريد أن تغضبه بأن يسرّها ويعتقها في سبيل الله.

وفي كرمهأنظر كيف يقابل رجلاً جاءه شاكياً قائلاً: استقسمك بحق الذي اعطاء هذه النعمة دون شفاعة تنتقم لي من عدوي لأنّه عدوٌ محتالٌ مكارٌ لا يحترم الشيخ الكبير ولا الطفل الصغير.

فجلس الإمام وقال من عدوّك حتى انتقم لك؟ فقال الحاجة!

فاطرق الإمام برأسه ثمَّ قال: “أعطوه كل المال” ثمَّ قال: “استقسمك بحق الأقسام إذا مرَّ بك هذا العدو ترجع الي وتشكوه لي”.

أمّا الشجاعة فاسمع جولاته في الجمل وصفين وكأنه أمير المؤمنين، عليه السلام، وفي العلم والبلاغة فانشد العدو قبل الصديق.

📌 القيادة السياسية للإمامة

ثم إن الحياة السياسية للإمام وحنكته في إدارة الأمور لا تغيب عن سيرته المنيرة أيضاً، وما أحوجنا إليها لنأخذ تطبيقاً عملياً في واقعنا الذي نعيشه، فالإمام الحسن، عليه السلام، صالح معاوية، في ظروف معروفة، وبشروط محدودة، ليضع منهجاً للسَلْم -، لا للسَلَم ولا للسِلْم.

ونريد الفات النظر إلى هذا الصلح من زاويتين؛ ربما يقل إلفات النظر اليهما:

⭐/ الأولى: الهدف الأساسي من الصلح

⭐/ الثاني: كيف نصالح؟

والسبب في اختيار هذه الزاوية، ما نجده في أيامنا من محاولة البعض تبرير تحالفاته السياسية، بما فعله الإمام الحسن المجتبى، عليه السلام، فإذا كان الإمام صالح معاوية وهو الغدّار النزق، وهو الذي قال فيه النبي، صلى الله عليه وآله، أنّه رأى القردة تلعب على منبره ثمَّ قال: “إذا رأيتم معاوية يخطب على الأعواد فأقتلوه”، فلماذا لا يسوغ لنا أن نتحالف مع من هو دونه؟!

وهذا الأمر ربما يصدق في العراق اليوم، و ربما يصدق حتى في الدول الإسلامية الأخرى، فنحن نشهد تحولات كبيرة مما يتطلب مواقف للدول الإسلامية وتحالفات كبرى اقليمية.

⭐/ الأمر الأول: الهدف من الصلح

من يقرأ خارطة العالم الإسلامي آنذاك ومنذ تولي عثمان الخلافة يجد أنَّ الأوضاع كانت تزداد سوءاً يوماً بعد يوم؛ فقد تفاقم الصراع الداخلي بصورة واضحة، مما أدى الى قتل عثمان في النهاية، ولم يتوقف ذلك بل تحوّل على شكل حروب وتمردات عسكرة.

وفي فترة خلافة أمير المؤمنين، عليه السلام، قام معاوية بتسديد ضربات قاسية كادت أن تنهي الحكم الإسلامي لولا حكمة أمير المؤمنين، عليه السلام، في فضحه والتصدي له، ويمكن الإشارة في ذلك إلى أمور:

  1. مصالحته الروم وإعطائه الجزية لهم.
  2. المجازر التي فعلها في الأنبار واليمن والمدينة، و احتلال مصر وقتل واليها من قبل أمير المؤمنين، محمد بن ابي بكر، رضوان الله عليه.
  3. إغتيال كبار الصحابة ورجالات الأمّة من أمثال مالك الأشتر.
  4. فضلاً عن محاولات مسخ الدين عبر نشر الأكاذيب وشراء ذمم العلماء والرواية عن النبي صلى الله عليه وآله.

من جهة أخرى فإنَّ الأمّة لم تكن بمستوى المسؤولية في الدفاع عن الدين إلّا البقية الباقية من حواريي أمير المؤمنين، أمثال؛ حجر بن عدي، وقيس بن سعد بن عبادة، وسليمان بن صرد، فالحرب لو وقعت، لا جرم كانت تنتهي بقتل هؤلاء، فيبقى معاوية وحده يتصرف في العالم الإسلامي دون رادع.

ومن هنا فإن أردنا أن نلخِّص الهدف الكبير من هذا الصلح؛ كان الإبقاء على الكيان العام للعالم الإسلامي المتهرِّئ، حتى لو كان إطاراً بمحتوى خاطئ، ليترك تصحيح محتواه لفترات قادمة.

وبتعبير آخر؛ إن كان الأمر يدور بين أن لا يبقى الإسلام، أو أن يبقى إسماً بلا رسم مع رجاء أن يتم تصحيح الواقع لاحقاً فان الإمام الحسن قدّم الثاني؛ وهذا قمّة الحكمة، وهو عين ما فعله النبي، صلى الله عليه وآله، من قبلُ في صلحه مع اليهود والمشركين في الحيدبية.

⭐/ الأمر الثاني: كيف نصالح؟

لكن هذا الصلح هل كان مطلقاً؟! وهل كان سَلَماً (استسلاماً)؟ أم كان سِلْماً (مسالمة عامة وانهاء النزاع) أم أنّه كان في الحقيقة سَلْماً والذي يعني إيقاف الحرب إلى حين، كما قال تعالى: {فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا}.

تفسير هذا الصلح بالأول أو الثاني أوقعنا في مغالطات كثيرة نحتاج إلى معالجتها فكرياً وثقافياً، وبناء عليه نتساءل؛ هل يجوز لنا أن نتحالف اليوم ـ بعد تحقيق الهدف المطلوب ـ مع من نشاء كيفما نشاء، أم أنَّ هناك شروطاً وخطوطاً حمراء يجب أخذها بعين الإعتبار؟

بمراجعة صلح الإمام الحسن، عليه السلام، نجد أن هناك ثلاثة نقاط مهمة جداً:

⭐/ أولاً: كلا لتنزيه العدو

بالرغم من محاولات معاوية الكثيرة بعد الصلح على تغيير قناعه، إلّا أنَّ كل هذه المحاولات باءت بالفشل، فقد حاول أن يزوج يزيد من أم كلثوم، ابنة عبد الله بن جعفر والسيدة زينب، وجعل مهرها الصلح بين الحيين!

وصدّه الأئمة، عليهم السلام، كما كان يحاول شراء ذمة الإمام بإرسال العطايا، ولكن الإمام الحسن لم يقبل منه ذلك وحين تفاخر عليه بأمه هند كتب له، عليه السلام: “لا حاجة لي فيها يا ابا عبد الرحمن و رددتها وانا ابن فاطمة”.

ومن النصوص التاريخية التي يجب أن تكتب بماء من ذهب، خطبته عليه السلام، في الكوفة حين تسليمه الحكم الى معاوية، فقد طلب منه معاوية الخطبة، فخطب الإمام خطبة ما نزل منها إلّا بفضيحة آل أبي سفيان.

🔶 كان معاوية يريد تغيير الشريعة، وتجاوز كل الحدود، لكنَّ الإمام ألزمه أن يتلزم بمظاهر الإسلام أمام الناس، فقد أثبت عليه الحدود التي يمكنه أن يتحرك ضمنها، فلو كان يريد علناً المخالفة لافتضح أمام بطانته

فحمد الله وأثنى عليه إلى أن قال: “وإن معاوية زعم لكم أني رأيته للخلافة أهلا ولم أر نفسي لها أهلا، فكذب معاوية. نحن ‏أولى الناس بالناس في كتاب الله –عزوجل- وعلى لسان نبيه، ولم نزل مظلومين ‏منذ قبض الله نبيه، فالله بيننا وبين من ظلمنا، وتوثب على رقابنا، وحمل الناس علينا، ‏ومنعنا سهمنا من الفيء، ومنع أمّنا ما جعل لها رسول الله، واقسم بالله لو أن الناس ‏بايعوا أبي حين فارقهم رسول الله لأعطتهم السماء قطرها، والأرض بركتها، ولَمَا طمعتَ ‏فيها يا معاوية! فلما خرجت من معدنها تنازعتها قريش بينها، فطمع فيها الطلقاء وأبناء ‏الطلقاء، أنت وأصحابك. وقد قال رسول الله: ما ولّت أمّة أمرها رجلاً وفيهم من هو ‏أعلم منه إلا لم يزل أمرهم يذهب سفالاً حتى يرجعوا الى ما تركوا”.

ثمَّ التفت الى معاوية فردّ عليه سبّه لأبيه ـ فيما خطبه معاوية قبل هذه الخطبة ـ فقال له:‏ “أيها الذاكر علياً أنا الحسن وأبي علي، وأنت معاوية وأبوك صخر وأمىّ فاطمة، وأمك هند، وجدي ‏رسول الله، وجدك عتبة بن ربيعة، وجدتي خديجة، وجدتك فتيلة، فلعن الله أخملنا ذكرا، وألأمنا حسبا، وشرنا ‏قديما وحديثا، وأقدمنا كفرا ونفاقا”!

فارتفعت الأصوات من جميع جنبات الحفل بقول:‏ آمين آمين.

⭐/ ثانياً: حفظ الشريعة

حين يقرأ الإنسان بنود الصلح قد يستغرب لبعض ما ورد فيها، إلّا أنَّ الإمام كان يريد بهذه الشروط حفظ الشريعة، فهي كانت الأهم عنده.

فمعاوية كان يريد تغيير الشريعة، وتجاوز كل الحدود، لكنَّ الإمام ألزمه أن يتلزم بمظاهر الإسلام أمام الناس، فقد أثبت الإمام عليه الحدود التي يمكنه أن يتحرك ضمنها، فلو كان يريد علناً المخالفة لافتضح أمام بطانته.

⭐/ ثالثاً: حفظ الشيعة

حين انتقد حجر بن عدي على الإمام الصلح، أجابه الإمام بكل عطف وحنان قائلاً: “يا حجر ليس كل الناس يحب ما تحب ولا رأيه كرأيك وما فعلت إلا إبقاءً عليك”، فكان محور صلح الإمام، عليه السلام، هو شيعة أمير المؤمنين، بل وأسس الإمام إطاراً للإبقاء عليهم حتى من خالفه والتحق بمعاوية في حينها، فكتب في مفاد الصلح: “الناس آمنون حيث كانوا من أرض الله تعالى في شامهم ويمنهم وعراقهم وحجازهم وعلى أن أصحاب علي وشيعته آمنون على أنفسهم وأموالهم ونسائهم وألوادهم حيث كانوا“.

فمن يريد اليوم الإقتداء بالإمام الحسن، عليه السلام، في تحالفه؛ المحلي أو الإقليمي، فعليه أولاً أن يرى الهدف الأساس لهذا التحالف، فلا تكون المصالح الحزبية والإقتصادية هي الهدف الأساسي من هذا التحالف، ومن ثمَّ فيجب أن يكون هذا التحالف محققاً ـ على أقل التقاديرـ على هذه الشروط الثلاث، لا أن تكون على حسابها.

عن المؤلف

السيد مرتضى المدرّسي

اترك تعليقا