بعض الظواهر السلبية نستنكرها في احاديثنا، ولكن نجدها في سلوكنا العملي حاضرة بشكل طبيعي! مثل نظام السير، والنظافة وجمع النفايات، وغلاء الاسعار، فالجميع يدعو الى الالتزام بقوانين المرور، ويطالب البلدية بتوزيع حاويات جمع النفايات، ويشجب ارتفاع الاسعار، ولكن على أرض الواقع نجد النقيض.
ربما هي مشكلة نفسية، او مشكلة اخلاقية، وقد أشار الى هذه الحالة القرآن الكريم بتسائل مثير: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ}، وما يثير القلق ليس فقط هذه المشكلة السلوكية، إنما في تأثر الواقع الاجتماعي برمته بهذه العدوى، وربما تكون أحد عوامل تكريس الواقع الفاسد وتفاقم المشاكل، حتى المتعلقة بمؤسسات الدولة ايضاً.
المولدات الأهلية تمثل للعراقيين طوق نجاة من عجز الحكومة توفير الطاقة الكهربائية على مدار اليوم، وهو العجز الذي لازم الحكومة العراقية منذ انزلاقها في الحرب مع الولايات المتحدة والعالم بعد غزو الكويت، فباتت هي المصدر الرئيس للكهرباء، ويأتي التيار “الوطني” في الدرجة الثانية من حيث الاعتماد، بل إن الناس ملتزمون بتسديد أجور التجهيز كل بداية شهر، بينما ينكرون على الحكومة حقها في جباية أجور الكهرباء كل شهرين، والكثير من الناس يستخدمون التيار الكهربائي الحكومي من دون جهاز مقياس.
العلاقة الودّية بين الأهالي وأصحاب المولدات الأهلية تعرضت للتشوّه بسبب جوهري واحد وهو “راحة المواطن” التي يشتريها الكثير مهما كلف الثمن.
⭐ الحل ليس صعباً اذا ما تفهمنا صعوبة الحصول على عامل مشغّل وموثوق خلال فترة الصيف
اقترح الناس على اصحاب المولدات في السنوات الماضية بأن يجهزهم بالكهرباء على مدار اربعة وعشرين ساعة خلال فصل الصيف لتوفير النوم الهانئ في ساعات الظهيرة وفي الليل، مع زيادرة في الأجر، وأطلق على هذا النوع من التجهيز بـ “الذهبي”، وعندما بلغ الخبر للمسؤولين المعنيين في المحافظات كافة، وحتى الى رئيس الوزراء، فكان الرأي بتقنين الوضع الجديد بتزويد المولدات بحصة اضافية من الوقود لهذا الغرض، مقابل فرض تسعيرة ثابتة لهذا النوع من التجهيز (الذهبي) يكون ملزماً للجميع، الى جانب التسعيرة للخط العادي.
ما يحصل في الآونة الاخيرة تحول الخط الذهبي الى خط عادي، و على المواطنين تسديد أجور المولدات للخط الذهبي على مدار السنة، وليس فقط الأشهر المحدودة في فصل الصيف، وبمعنى أن الناس تدفع أجور كهرباء من المولدات الأهلية دون أيصلها منها شيء خلال أشهر الربيع والخريف حيث يتراجع الاستهلاك بشكل كبير.
عندما كنت أسأل بعض الاصدقاء عن سبب جعل هذا النوع من التشغيل قانوناً ثابتاً يفرضه اصحاب المولدات على الناس، تأتي الاجابة؛ حتى نتفادى ظلمة الليل فيما اذا نهض الاطفال منتصف الليل باتجاه دورات المياه، او لحاجة معينة في البيت، وعلل آخرون بعدم الثقة المتزايدة بالتيار الوطني وانه لا يعتمد عليه.
وعندما يطلب الناس مع اصحاب المولدات بالعودة الى التشغيل العادي، مثلاً أن يدفع الناس للأمبير الواحد اربعة آلاف دينار، بدل ثمانية آلاف في هذه الأيام الربيعية، يأتيهم الجواب؛ بأن من الصعب العودة ثانية الى التشغيل الذهبي، وهذا الطلب يعني تنازلك نهائياً عن هذا التشغيل حتى في فصل الصيف!
الحل ليس صعباً اذا ما تفهمنا صعوبة الحصول على عامل مشغّل وموثوق خلال فترة الصيف، لذا يفضّل اصحاب المولدات تثبيت هذا العامل المعروف لديهم على مدار السنّة براتب ثابت مطمئن كما لو انه موظف يستلم راتباً شهرياً!
فكما نتوقع تغيير نوع التجهيز من العادي الى الذهبي في فترة الصيف، علينا التفكير –كمواطنين- بتغيير عامل التشغيل، ونحن هنا نفترض انها المشكلة الأهم في القضية، وإن كانت ثمة اسباب اخرى، فان الخيّرين والمبادرين بامكانهم التحرك لمساعدة اصحاب المولدات في حل أي مشكلة تطرأ عليهم، لاسيما وأن المولدات تقع بالاساس وسط البيوت وملاصقة للمحال التجارية في كل مكان بالعراق.
⭐ المولدات الأهلية تمثل للعراقيين طوق نجاة من عجز الحكومة توفير الطاقة الكهربائية على مدار اليوم، وهو العجز الذي لازم الحكومة العراقية منذ انزلاقها في الحرب مع الولايات المتحدة والعالم بعد غزو الكويت
بالرغم من سهولة الحل، لكن نشهد الإهمال والتجاهل لهذه القضية الى درجة ان يصفها البعض ب”العويصة”، او “الشائكة”، ويكون الضحية بالدرجة الاولى اصحاب الدخل المحدود المجبرين على الاندماج مع المجموع، كما ذكر لي أحد الاخوة بانه كان مصراً على الخط العادي لانه يسحب ستة امبيرات، فعندما يتضاعف السعر يرتفع عنده الرقم بشكل هائل، وقال: أجبرت على الاندماج لأني الوحيد مع قلّة من المتبقين خارج “الخط الذهبي”، وأضاف شيئاً عن التعامل غير المريح لصاحب المولدة.
لسنا بوارد تقييم عمل المولدات الأهلية، فهي مدار حديث الناس منذ أن وجدت طيلة السنوات الماضية، علماً أن اصحاب المولدات بدورهم يتحدثون بصوت عالٍ عن معاناتهم مع عدم استلامهم حصتهم الكاملة من الوقود للتشغيل في فترات الانقطاع الطويلة، إنما العبرة في طريقة حل المشاكل والازمات الاخرى من حولنا، فاذا اردنا من التاجر الانصاف، ومن الطبيب النصح، ومن الموظف العدل والأمانة، علينا ان نساعد على تحقيق ما نريد، لا أن ننتظر الحلول الجاهزة الملبية لرغباتنا ومصالحنا.
ثم إن كل الحلول والبدائل ربما تنطوي على ازعاجات او منغّصات، فالتغيير دائماً محفوف بالخسائر، إنما الذكاء في التقليل من هذه الخسائر أفضل بكثير من الرضوخ لواقع فاسد وخاطئ نخسر بسببه الكثير، ليس في الكهرباء، وإنما في قضايا عديدة بحياتنا.