نشهد مفارقة غريبة في طريقة تعاملنا مع قضايا عدّة في الحياة.
العديد من العراقيين وغير العراقيين في هذا العالم الاسلامي الفسيح يطمح لأن تطأ قدماه أرض الدنمارك، أو السويد، او كندا، او الولايات المتحدة، وغيرها من البلاد الغربية، ومن اجل هذا مستعد لأن يدفع آلاف الدولارات، وربما يبيع سيارته وبيته ومجوهرات زوجته للوصول الى تلك الديار الجميلة، بحثاً عن الراحة والعيش بعيداً عن المتاعب، وما أن يضع قدماه في تلك الديار، حتى يعلن ولائه والتزامه الكامل لقوانين ذلك البلد، والتزامه بكل ما يُؤمر به، و ربما البعض يجد صعوبة في التأقلم بعد عمر قضاه في الفوضى في كل شيء في بلاده، ولكن!
عندما يكون في بلده، وعلى تراب وطنه الذي أخذ منه العلم والآداب والمعرفة من رصيد التاريخ والتراث وتجارب الماضين، نراه يستشعر الضيق والصعوبة في تقبل قانون واحد يدعوه لاحترامه المجتمع وليس الدولة والسلطة، وهو من المفترض ان يكون ابناً لهذه الارض، ووريث تراث وتاريخ مجيد مثل التاريخ الاسلامي، وتحديداً التاريخ الشيعي المشحون بالمفاخر والبطولات المستمدة ليس من أناس عاديين، وإنما من قامات عالية مثل؛ أمير المؤمنين، علي بن أبي طالب، و ولده؛ الامام الحسين، وأبطال آخرين من علماء ومصلحين خاضوا سوح الجهاد بالسيف والكلمة طوال القرون الماضية.
وعندما يجري الحديث عن البقاع المقدسة في كل أرجاء العالم الاسلامي، ومنها؛ العراق، فان المقصود ليس البناء المشيد بأربعة جدران تقام فيها الطقوس الدينية للتقرب الى الله –تعالى- فهذا يمكن ان يكون في أي زاوية من زوايا بيوتنا، وحتى أماكن عملنا، الى جانب المساجد والجوامع المخصصة لصلاة الجماعة، إنما القضية في الابعاد الحضارية الواسعة لهذه البقاع وعلاقتها الوثيقة بحياة الانسان، الفرد والمجتمع.
بعض مدن العالم تكتسب شهرتها العالمية من طابعها الخاص، فهناك مدن ثقافية مثل؛ لاهور الباكتسانية، وفلورانس الايطالية، ونيويورك التجارية، وهوليود السينمائية، وعلى غرارها المئات من المدن في العالم تحمل هذه العناوين، ونحن عندنا مكة المكرمة، مدينة الحج، ومدينة الرسول الأكرم، والنجف الأشرف مدينة العلم، وكربلاء المقدسة مدينة الثورة على الظلم والانحراف والفساد، وبنفس القدر الذي قضّت مضاجع الطغاة منذ أول علم رفع فوق قبر الامام الحسين، وصنعت الثورات، وأنجبت الثائرين والمصلحين، فانها كانت ايضاً شجرة وارفة خضراء تُظلل من يقصدها من كل انحاء العالم لزيارة الامام الحسين واستذكار الواقعة الأليمة والقيم العليا التي ضحى من اجلها مع اصحابه وأهل بيته، ولذا تحول مرقد الامام الحسين، الى مدينة بشوارع واسواق ومتاجر، ثم حوزات علمية، ومكتبات، ثم فنادق ومطاعم بشكل متسلسل على مر الزمان.
إن تميّز مدينة كربلاء على أي مدينة اخرى في العالم لاسباب ليس أقلها زيارة الاربعين المليونية، يعود بفضله الى شخصية الامام الحسين المتميزة والفريدة على طول الزمن في ايجاده الرابط المتين بين عالم المعنويات وقيم السماء وأحكام الدين، وعالم الماديات وما يستشعره الانسان في حياته اليومية، وإلا ما العلاقة بين كونه إماماً معصوماً، يجسد كامل الشريعة والدين والحق، يقف يصلي ملتزماً بالفريضة الإلهية رغم مخاطر الموت المحدقة به وسط المعركة، ونصيحته لجيش عمر بن سعد بأن “كونوا أحراراً في ديناكم”، فهو راحلٌ الى جنان الخلد، طاهرٌ مطهّر، شهيد مع اصحابه وثلّة من أهل بيته، و لتبقى الجموع المغرر بها عبيداً جبناء، وهم كانوا كذلك بالفعل والقوة؛ عبيداً للمال والسلطة؟
إن القيم الدينية المتجسدة في الصلاة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتي حاربها يزيد بن معاوية، وحاربها من جاء بعده، وبعده ايضاً من الحكام، والى يومنا هذا، والى يوم القيامة، هي التي تصنع الحرية، والعدل، والأخلاق، وكل ما من شأنه ان يشكل خطراً على مناهج الطغاة في تمييع المشاعر، وتضليل العقول، وتزييف الحقائق للبقاء في السطة لوقت أطول، فالطغاة والفاسدون طوال القرون الماضية والى اليوم، لا يعيشون الراحة والاستقرار إلا عندما يفقد افراد المجتمع حريتهم في التعبير عن الرأي والنقد والإصلاح، ويترنحوا على أصوات الموسيقى، يأكلون ويضحكون ويقتلون الساعات الغالية تحت المصابيح الملونة.
من يقيم حفلات الموسيقى والرقص، ويظهر بملابس واشكال مثيرة يستجدي بها أعين الناس، فانه يسيئ الى نفسه قبل أن يُسيئ الى الامام الحسين، فالإمام، ومن قبله أمير المؤمنين، وايضاً؛ رسول الله، كلهم عبادٌ لله –تعالى-، والعالم يعجّ بالمنكرات والمفاسد والمظالم دون أن يُصاب أحد بأذى، وهو –جلّ جلاله- جبّار السموات والأرض، وقد فعل ما فعل بالأقوام السابقة في عهد الانبياء، إلا أن {اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْ الْعَالَمِينَ}، وهو {أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ}، فما بال المعصومين، عليهم السلام! إنهم رسل رحمة، ووجودهم في الارض مصدر خير وبركة وسعادة، و أن يشعر أي انسان في مدينة كربلاء المقدسة بأنه حُر، فهذا أمر عظيم يستوجب الشكر والعرفان لمن أطلق كلمة الحرية لأول مرة على هذه الارض، وهو ليس أميركياً، ولا بريطانياً، ولا أي انسان آخر من عامة البشر، وإنما هو من غصن شجرة {أصلها ثابت وفرعها في السماء}، أراد، عليه السلام، للإنسان في كربلاء وفي أي مكان بالعالم أن يكون حُراً في فكره و رؤيته للحياة، لا تقيده الملذات العابرة وتأخذ به ذات اليمين وذات الشمال، حتى يستطمع به الحكام الطغاة المتربصين به، وايضاً؛ من يخططون لجني الارباح والمال بأيّ وسيلة.
وعليه؛ كلما كان الاحترام والتبجيل والتقدير للإمام الحسين ولأرضه أكثر، كان احترام العالم لأهل هذه المدينة أكبر، ولا ننسى إشادات المؤسسات العالمية، و اصحاب الاديان بما يصنعه زوار أربعين الامام الحسين كل عام.
احْترِم تُحترم.