عندما تصطدم الجماهير بجدار عالٍ يفصلها عن “المسؤول” في الدولة الباحث عن مراقي للصعود الى المناصب والامتيازات، فانها تنشطر الى شطرين للتعامل معه؛ الشطر الأول: يفضل العصامية والنأي بالنفس على التلوث بالمال السياسي والولاءات الكاذبة والتورط بالازدواجية والوصولية، والتفكير بالحساب يوم القيامة على التفكير بأمور تراها ذات صفة مادية زائلة، حتى و إن كلفها بعض الضغوط المعيشية في هذه الحياة، أما الشطر الآخر، فانه يسعى للتحايل والالتفاف على هذا “المسؤول” بإظهار الولاء نهاراً والتنصّل عنه مساءً! للحصول على ما يلبي حاجاته ويحل مشاكله من فرصة عمل، او قرض للبناء والزواج، وغيرها كثير، مع علمه اليقين إنه يقبض حفنة من الاموال التي هي بالحقيقة أمواله الخاصة، كما هي أموال سائر افراد الشعب، وليست أموالاً خاصة بهذا السياسي او ذاك، لذا يقولون: “شعرة من جلد الخنزير”!
هذا الحيوان المقزز والكريه شرعاً وعرفاً وذوقاً، يجد طريقه بشكل غريب الى حياة البعض من الناس من خلال “شعرة” على أنها جزء صغير لا يُعتد به، في حين إن وجبة الطعام الواحدة، او رصيد للهاتف، او أي حاجة أو سلعة، او مبلغ صغير يُنثر في موسم الانتخابات من قبل طلاب السلطة والحكم، إنما هو شعرة من جسم كبير مشبوه، وليس بالضرورة أن ينغمس الانسان كاملة مع شخص او جهة يعلم باطلها، إنما مجرد تسلّمه شيئاً بسيطاً منها فهو نقطة سوداء تلصق به من ذاك الجسم الأسود الكبير، حينها لن تكون ثمة فرصة للعودة والتصحيح.
ربما يوهم البعض نفسه بالذكاء والدهاء عندما يخدع ـ بظنه – هذا المرشح او تلك الجهة بالاستفادة من هباتها وأموالها “لتمشية الحال”، بيد أن الآثار البعيدة المدى لهذا المسلك أشد خطورة وسوءاً
ومن التاريخ وسيرة الأئمة الأطهار، عليهم السلام، نقرأ تحذيرات عديدة من مغبة السقوط في هذه الفخاخ، و”تكثير السواد”، و”إعانة الظالم”، كما حصل مع أحد اصحاب الامام الكاظم، عليه السلام، (صفوان الجمّال) عندما سأله عن تأجيره للجِمال للسلطة العباسية لغرض الحج فلم يجز له الإمام الكاظم، عليه السلام، ذلك.
وما أبلغ ما قاله الإمام الباقر، عليه السلام، في إعانة الظالم: “ما يأخذ المظلوم من دين الظالم أكثر مما يأخذ الظالم من دنيا المظلوم”. ويضع الامام الصادق، عليه السلام، النقاط على الحروف بما لا يدع مجالاً للنقاش: “لولا أن بني أمية وجدوا من يكتب لهم ويجبي لهم الفئ (الأموال) ويقاتل عنهم ، ويشهد جماعتهم، لما سلبونا حقنا”.
ربما يوهم البعض نفسه بالذكاء والدهاء عندما يخدع ـ بظنه – هذا المرشح او تلك الجهة بالاستفادة من هباتها وأموالها “لتمشية الحال”، بيد أن الآثار البعيدة المدى لهذا المسلك أشد خطورة وسوءاً، ومن المساوئ ما يمكن الاشارة الى بعضها:
أولاً: على الصعيد الاجتماعي عندما يتم تكريس الواقع السيئ وإبقاء المشاكل والازمات التي يتلوى منها المواطن في واقعه الاجتماعي، فهو يشكو الفساد الإداري، والمحاصصة، وعندما يكسب شيئاً من هذا وذاك في موسم الانتخابات، وفي مناسبات اخرى، فانما يعلن رضاه بتحول هذا العمل الى سنّة وقانون على الجميع الالتزام به لمن يريد تمشية معاملة بسيطة في أي دائرة، أو حتى المطالبة بحقوقه المشروعة، فما عليه إلا اتباع نفس طريق ذاك “المستأكل” عندما خط طريقاً للفاسدين في الواقع الاجتماعي، وهي جريمة أشد وأمرّ كونها تمتد مع الزمن.
ما أبلغ ما قاله الإمام الباقر، عليه السلام، في إعانة الظالم: “ما يأخذ المظلوم من دين الظالم أكثر مما يأخذ الظالم من دنيا المظلوم”
ثانياً: على الصعيد الاخلاقي حيث تتعرض النفس والروح لخطر التصدّع بالابتعاد عن معايير الصدق والورع والتقوى، فهو يدعو الى النزاهة والعفّة ونظافة اليد، بينما هو يندفع ـ ربما من حيث لا يريد – نحو التزلّف والانتهازية، وهو ما ينتظره معظم الساسة الباحثين عن الولاء والتأييد والصوت الانتخابي، بينما يبحث المواطن عن حاجاته الاساسية، وكما نُقل عن بعض المرشحين في حديث له مع بعض المواطنين: “فيد واستفيد”!
إن التجارب التاريخية، قديماً وحديثاً أكدت لنا العلاقة العضوية بين استمرارية الطغاة في الحكم، واستحكام الظواهر السيئة في المجتمع، وبقدر هذا الاستحكام والانتشار، تكون قوة ومنعة هذه الطاغية والفاسد، وقدرته على الاستمرار في الحكم مهما أفسد وأجرم، وهذا يدفعه لمزيد من التحفيز للتزلف والتقرّب، بمزيد من الأموال والسيارات والعقارات والوظائف.
ثالثاً: على الصعيد التربوي، وهذا ما هو أخطر علينا، رغم انه غير منظور، لكن لانه داخل في البنية التحتية للمجتمع، فان الآثار التكوينية المباشرة لها مدخلية في نشوء جيل من المتزلفين والانتهازيين ممن نما لحمهم، ودمهم، وفكرهم على المال السياسي المشبوه، فكيف يتسنّى للشاب المتخرج من الجامعة، ـ والحال هكذا- ان يحكّم ضميره ووجدانه وهو طبيب او محامي او موظف حكومي خلال تعامله مع الناس؟ بل؛ هل سيعرف شيئاً اسمه “الضمير”، وحقوق الناس، بعد ان يتذى على أموال أناس انتهكوا حقوق الناس وكانوا سبباً في دمارهم ومأساتهم؟