يقول الامام زين العابدين، عليه السلام: “وَ لا تَبْتَلِيَنِّي بِالْكَسَلِ عَنْ عِبَادَتِكَ وَلا بِالْعَمَى عَنْ سَبِيلِكَ”
كما ان الاعمى لا يمكنه ان يشخص الطريق، كذلك من هو مصاب بالعَمَه، فالعمى هو ان يفقد الانسان البصر، أما العمه؛ هو فقدان البصيرة، وأن يفقد الإنسان البصيرة، أسوأ بكثير من ذلك يفقد البصر. لأن من يفقد البصر، قد يستعين بعصا، او قد يستعين بشخص يأخذ بيده فيوصله الى مقصده. ولكن المبتلى بعمه البصيرة، وعمى القلب لا يفيده شيء.
لذلك الإمام السجاد، عليه السلام، مما يطلبه من الباري ـ عز وجل ـ في هذا الدعاء ـ دعاء مكارم الأخلاق ـ، هو أن لا يبتليه بالعمى عن سبيل الله؛ فما هو سبيل الله؟
كل عمل صالح هو سبيل الله، فالطاعات والعبادات من قبيل الصلاة، والصيام الى وغيرها من الاعمال العبادية، كلها سبيل الله، لكن ماذا يقصد الإمام زين العابدين، عليه السلام: “ولا العمى عن سبيلك”.
هنا لا بد من ايضاح نقطتين:
الاولى: أحيانا قد تكون هذه الصلاة ـ التي هي واجبة علينا ـ حراما، متى يكون ذلك؟ في تلك اللحظة التي ترك فيها حبيب بن مظاهر الاسدي، الصلاة للجهاد في سبيل الله، بين يدي الإمام الحسين، عليه السلام، وقُتل قبل أن يصلي، فأيهما كان الأولى؟ أن يترك الدفاع عن الإمام الحسين، عليه السلام، ويذهب الى الصلاة، أم يقاتل ويجهاد في سبيل الله؟
فإذا كنت تصلي بجوار نهر، ورأيت احدهم يغرق؛ فأيهما الأولى؟ فإذا صليت وتركت ذلك يغرق يأتي يوم القيامة، ويحاسبك الله على هذه الصلاة!
في كثير من الأحيان ـ نحن ـ لا نرى سبيل الله، خصوصا عند ازدحام الامور، فالبعض يتصدق بالأموال على الآخرين، لكنه لم يصرف على عائلته التي هي الأولى بتلك الأموال، وهذه الصدقة سيحاسب عليها ـ أيضاـ، لأن سبيل الله، كان يتمثل في أن تكفي عائلتك أولا؛ ثم بعدها تتصدق.
“ولا العمى عن سبيلك”، فنحن قد نشتغل في طاعة الله، لكن يأتي يوم القيامة، ونكون مصداق الآية الكريمة: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً}، أو {الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً}.
الثاني:من ابرز مصاديق سبيل الله، هم النبي محمد، وأهل بيته، صلوات عليهم، فحينما يقول الله ـ تعالى ـ: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا}، فهذا هو سبيل الله، وحين نقرأ دعاء الندبة، نقول في بعض فقراته: “اين السبيل بعد السبيل”، فماذا يعني ذلك؟
كان هذا المفهوم في زمن الائمة سهل ويمكن تشخصيه، يقول النبي الأكرم، صلى الله عليه وآله: ” يا عمار فإن سلك الناس كلهم واديا وسلك علي واديا، فاسلك وادي علي بن أبي طالب، عليه السلام، وخل الناس”، ويقول: علي مع الحق والحق مع علي، يدور معه حيثما دار”، فليس من الصعب اختلاط الامور، فالإمام علي، عليه السلام، هو الميزان، فحتى لو خرجت زوج النبي، تقاتل الإمام علي، فإن ميزان الحق ومعياره، كان متمثلا بتلك الشخصية.
-
إذا اختلطت الأمور.. ما العمل؟
من الأمور التي احتجَّ بها الإمام علي، عليه السلام، في حرب صفين، على الطرف المقابل، هو وجود الصحابة في جيشه، وكانوا ممن بشرهم النبي الاكرم بالجنة، فعمار بن يسار الذين كان ضمن اولئك المبشرين، كان في جيش الإمام عليه السلام، والنبي الأعظم هو القائل في حق عمار بن ياسر: يا عمار تقتلك الفئة الباغية”
يقول الإمام علي، عليه السلام، في وصف الشبهة: “وَ إِنَّمَا سُمِّيَتِ اَلشُّبْهَةُ شُبْهَةً لِأَنَّهَا تُشْبِهُ اَلْحَقَّ فَأَمَّا أَوْلِيَاءُ اَللَّهِ فَضِيَاؤُهُمْ فِيهَا اَلْيَقِينُ وَ دَلِيلُهُمْ سَمْتُ اَلْهُدَى“، فالهدى كان واضحا بوجود الأئمة، لكن المشكلة حدثت بعد غيبة الإمام المهدي، عجل الله تعالى فرجه. فحين يناجي الإمام الصادق، عليه السلام، الإمام المهدي: غيبتك نفت رقادي وسلبت مني راحة فؤادي”. وكأن الإمام الصادق، عليه السلام، يشبه حال زمن الغيبة، وكيف أن الامور تختلط على الناس.
وهذا الزمن ـ زمن الغيبةـ زمن اختلاط الأمور وتشابكها، علينا أن نطلب من الله ـ سبحانه وتعالى ـ أن لا يبتلينا بالعمى عن سبيله، وأن لا نغفل عن إمام زماننا، عليه السلام، فهو يرعانا، حتى وإن كنا لا نراه، جاء في (كمال الدين) عن جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنه: أنّه سأل النبي صلى الله عليه وآله وسلم هل ينتفع الشيعة بالقائم عليه السلام في غيبته؟
فقال صلى الله عليه وآله وسلم: “إي والذي بعثني بالنبوّة، إنّهم لينتفعون به، ويستضيئون بنور ولايته في غيبته، كانتفاع الناس بالشمس وإنْ جلّلها السحاب” فنحن لا نرى عين الشمس، لكن عطفها وحنانها، وآثارها، موجودة ونستفيد منها. ولكن مما يؤسف له أن تعاملنا مع الإمام الحجة، عجل الله ـ تعالى ـ فرجه، اصبح مثل تعاملنا مع ضريح الإمام الحسين، عليه السلام، اصبحنا لا نستشعر وجوده في حياتنا.
من الجيد أن يقوم البعض بأعمال للقاء الإمام المهدي، كالذهاب الى مسجد السهلة، وسرداب الحجة، وغيرها من الأعمال، لكن الحقيقة لسنا بحاجة هذه الأعمال حتى نلقى الإمام، عليه السلام، فإذا صفّى المؤمن قلبه، وتوجه اليه، ويجعل الإمام حاضرا في حياته، وإلا ما هي فلسفة أننا في ليالي شهر رمضان نقرأ دعاء الافتتاح، وكل ليلة ندعو: اللهم انا نرغب ..”؟ وما هي فلسفة أننا صباح كل يوم نقرأ دعاء العهد طوال السنة؟ جزء من تلك الفلسفة أن نتوجه الى الإمام الحجّة، عجل الله ـ تعالى ـ فرجه، وأن لا نصاب بالعمى عن سبيل الله.