يقول الإمام زين العابدين، عليه السلام: “وَالْقَوْلِ بِالْحَقِّ وَإِنْ عَزَّ، وَاسْتِقْلالِ الْخَيْرِ وَإِنْ كَثُرَ مِنْ قَوْلِي وَفِعْلِي، وَاسْتِكْثَارِ الشَّرِّ وَإِنْ قَلَّ مِنْ قَوْلِي وَفِعْلِي”
بالرغم من أن التأكيد في الشريعة على العمل؛ إلا أن الإمام عليه السلام، لم يجعل العمل الحق من زينة المتقين، وحلية الصالحين، وإنما قال الإمام السجاد: “وَالْقَوْلِ بِالْحَقِّ وَإِنْ عَزَّ“، فلماذا القول؟ وماذا يعني الحق؟
وماذا يعني قوله، عليه السلام: “وإن عز”؟
صحيح أنه {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى}، لكننا في كثير من الأحيان بالحاجة الى قول الحق، ولهذا قال الحديث الشريف: “أعظم الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر”، وهذا القول هو بذاته فعل، وهو تصدي، ولذلك يكلّف الإنسان الكثير.
أبو ذر الغفاري، رضوان الله ـ تعالى ـ عليه، تم نفيه من قبل الخليفة الثالث الى الشام، فحين كان يجتمع الناس حول معاوية لاستلام الدراهم والدنانير، كان ابو ذر يقرأ قوله ـ تعالى ـ: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ}، فلم يتحمل معاوية ذلك، فأرسل الى الى عثمان، وقال له: أن أبا ذر سيفيد عليَّ أهل الشام! فلما رجع ابو ذر الى المدينة المنوّرة، عاتبه عثمان؛ فقال ابو ذر: أتنهاني أن أقرأ القرآن الكريم؟
وفي المدينة لم يسكت، مما دفع بهم الى نفيه الى الربذة، ومات الصحابي الجليل أبو ذر من الجوع والعطش، لمجرد قول الحق. والقول ـ عادة ـ مقدمة للعمل.
“بالحق”؛ الحق هو: الشيء الثابت، وهو الشيء الصحيح، أحيانا قد يكون الظاهر حق، لكنه ليس بحق، فالصدق حق، لكنّه محرم في الإفساد، لأنه يؤدي الى غرض غير صحيح، لذلك قالوا: “يجب أن يكون الحق نافعا من جهة، ويجب أن يكون صحيحا من الجهة الأخرى”. فلا يكفي ان يكون الحق صحيحا، فقد يكون ـ في بعض الأحيان ـ مضرا.
فالمساواة ـ مثلا ـ ظاهرها حق، ولكن احيانا تكون ظلما، فليس من الحق أن تساوي بين رجل كبير، وآخر صغير في الطعام! فحاجة الكبير، اكثر من حاجة الصغير، وهكذا في بقية الأمور.
فزينة المتقي هو القول بالحق حينما يكون نافعا للناس، أما من يرفع كلمة الحق شعارا، ويخرج في مظاهرات، وتكون النتيجة افسادا، فهذا ليس حقا، وليس جهادا. ولهذا لابد لأي حركة جهادية أن يكون لديها اتباط بفقيه، حتى يرشدها الى ما يمكن القيام به.
ولهذا فنحن نرفض الحزبية التي يترأسها عدد من الأشخاص، فيجتمعون ويقررون ما يشاؤون فقيه يوجههم ويرشدهم.
“والقول بالحق وإن عز”، كثير من الناس لديهم الاستعداد الكامل لقول الحق إذا كان لا يكلّف شيئا، لكن في حال كان الكلام يكلفهم، فهم غيرمستعدين للقول بالحق، لذلك قيمة المؤمن تتبين في مثل هذه المواقف، كموقف الصديقة الزهراء، عليها السلام، حين تخطب خطبتها الفدكية، ونتيجة ذلك تقتل ـ سلام الله عليها ـ، ويحرق باب دراها، ويقتل جنينها.
“وَاسْتِقْلالِ الْخَيْرِ وَإِنْ كَثُرَ مِنْ قَوْلِي وَفِعْلِي، وَاسْتِكْثَارِ الشَّرِّ وَإِنْ قَلَّ مِنْ قَوْلِي وَفِعْلِي“.
فذلك المؤمن الذي يقوم في أيام الشتاء الباردة، بعد أن كان في نوم هانئ، فيتوضأ، ويصلي صلاة الليل، وهذا أمر صعب، لكن حتى يهذب الإنسان نفسه، لا بد أن يعد ذلك شيء قليل، صحيح أن المؤمن يفرح إذا قام بعمل صالح وفيه خير، سواء كان ذلك العمل بينه وبين الله، أو بينه وبين الناس، لابد أن يستقل ذلك العمل.
واستكثار الشر، فحتى وإن كانت معصية صغيرة، لا بد للمؤمن أن يستكثر ذلك، فقد جاء في الرواية: “لا تنظر الى المعصية، انظر من عصيت”، فحين “يستقل الخير” حتى لا يصاب بالغرور، “ويستكثر الشر، حتى لا يصاب الإنسان بالا ستهانة بالذنب، التي تعد أعظم من الذنب نفسه.
عن الإمام علي، عليه السلام: “أعظم الذنوب عند الله سبحانه ذنب صغر عند صاحبه”، وعنه، عليه السلام: “أشد الذنوب عند الله سبحانه ذنب استهان به راكبه”، ولهذا فإن الإنسان المؤمن إذا ارتكب ذنبا، فإنه يعتبره شيئا كبيرا، يقول الإمام زين العابدين، في دعائه عند استقلاله من الذنوب:
“يَا إلهِي لَوْ بَكَيْتُ إلَيْكَ حَتَّى تَسْقُطَ أَشْفَارُ عَيْنَيَّ ، وَانْتَحَبْتُ حَتَّى يَنْقَطِعَ صَوْتِي، وَقُمْتُ لَكَ حَتَّى تَتَنَشَّرَ قَدَمَايَ، وَرَكَعْتُ لَكَ حَتَّى يَنْخَلِعَ صُلْبِي، وَسَجَدْتُ لَكَ حَتَّى تَتَفَقَّأَ حَدَقَتَايَ، وَأكَلْتُ تُرَابَ الأرْضِ طُولَ عُمْرِي، وَشَرِبْتُ مَاءَ الرَّمَادِ آخِرَ دَهْرِي وَذَكَرْتُكَ فِي خِلاَلِ ذَلِكَ حَتَّى يَكِلَّ لِسَانِي ثُمَّ لَمْ أَرْفَعْ طَرْفِي إلَى آفَاقِ السَّمَاءِ اسْتِحْيَاءً مِنْكَ مَا اسْتَوْجَبْتُ بِذَلِكَ مَحْوَ سَيِّئَة وَاحِـدَة مِنْ سَيِّئـاتِي“.
وهذا هو الذي يحلّي المؤمن بصفات المتقين وزينة الصالحين.