ثقافة رسالية

عيد ميلادي الذي لم أحتفل به و مشكلة العلم والدين

لا أدري عزيزي القارئ إنْ كنت ممن يشاركني ”غصّتي“ هذه أم ممن يُشْفِقُ عليّ وأنت تقرأ قصتي. قصة تعود إلى أيّام الصبى، لكنها تعيش معي في أعماق الوجدان متجاوزةً حاجز الزمن، ثم تتداخل بشكل غير مقصود بمشكلة ”فلسفية“ ترتبط بهمومِ أمّةٍ في معركتها الحضارية. وعلى الرغم من أنّها في ”غصّتها“ أضاعَتْ عليّ هدايا عيد الميلاد، لكنها أَهْدتْني بعد ذلك ما هو أهمّ منها.

وإليك الحكاية من البداية.

ترعرعتُ في صباي في أسرة عُرِفَتْ بالتزامها الدينيّ، بل وأحياناً بالتزامها ”الثوري“ في التديّن، ذلك الذي يرى في الإسلام فحسب الهويّة الأولى والأخيرة، ويُقاوِم بالتالي محاولات ”التغريب“ بمختلف أشكالها. هكذا كانت أسرتي الصغيرة، لكنّ أسرتي الكبيرة – كما كثيرٌ من العوائل الكويتية – من الجانبين كانت خليطاً من ”تديّن“ متنوّع شدّة ورخاءً وفهماً وتطبيقاً. بل وأكثر من ذلك تتنوّع أسرتيّ الكبيرة في انتمائها المذهبي، وإذا ما لاحظنا الأقرباء بالسبب النسبيّ فإنّ سعة التنوّع تزدادُ بمستويات مختلفة.

كصِبْية في تلك الفترة لم تكن هذه الاعتبارات ملحوظة بالنسبة لنا، فبعد ما كبُرنا وزاد وعينا الاجتماعي بدأنا بملاحظة هذه الفوارق والهويّات المتداخلة بل وكلما تقدّم بنا العمر اتّسعَتْ دائرة الوعي الاجتماعيّ لمساحات أخرى. أما فترة الصبى، وكما يعتقد كثير من علماء النفس، فإنّ اتصالنا بالعالم الحسيّ المباشر أكثر، ومن خلاله نرسم العلاقات ونحدّد المواقف، وذلك بميزج غريب من البراءة والطمع. فيسترعي انتباهنا فتول العضلات، وغرابة المغامرات، وأعاجيب الأفعال، وسحر المظهر الخارجي.

 

  • هنا تحديداً تبدأ القصة!

من الفوارق بين ”ضوابط“ أسرتي الصغيرة، وتحديداً والدي، وبين أسرتي الكبيرة قضيّة الاحتفال بعيد الميلاد، فهي كانت بالنسبة لوالدي من المحرّمات، وكانت لكثيرين من آباء أقراني من أفراد العائلة من الواجبات أو المستحبات المؤكّدة. لم يكن خيال الطمع عندي يتوقف وأنا أسمع ابن عمتي أو ابن خالي يروي لي تفاصيل ”عيد الميلاد“، خصوصاً أنواع الهدايا التي يحصل عليها، وبالذات في تلك الفترة التي بَرَعَ فيها عدة محلات تجارية في الكويت على رأسها ”وليد للألعاب“ في إيراد ألعاب ”عجيبة“ كالرشاشات المائية والبنادق الإلكترونية المعززة بالليزر والبنادق ذات الطلقات المطاطية. بل وأكثر من ذلك؛ كانت تلك الفترة، حقبة التسعينيات، بداية غزو الألعاب الالكترونية للسوق الكويتي، ابتداءً من النيتيندو، ثم السيغا، ثم القيمبوي، بمختلف ألعابها المشوقة على رأسها سوبر ماريو، وسونك، وستريت فايتر، ومارتلكوبات. هذا ما كان في ”زمن الطيبين“ قبل غزو ما بعد الألفين بدخول سوني وعالم البليستشن ثم ألعاب الكمبيوتر.

كانت الحجّة الأساسيّة لوالدي في منْع ”عيد الميلاد“ أنه ”بدعة“ غير حسنة لا أساس شرعيّ لها. إذ أنّ الأعياد في الإسلام محدّدة (عيد الفطر، والأضحى، والجمعة، والغدير)، وما عدا ذلك فهي ”بدعة منكرة“ وفي أحسن الأحوال ”تغريب“ مستنكر.

من طرفي لم يكن همّيّ من عيد الميلاد إلا الهدايا، فلا الشموع ولا مختلف أطباق ”الكيك“ ولا البالونات كانت مهمة. فقد كنت مستعداً أن تقام حفلة عيد الميلاد في صالة جدتي ”نانا“ في الوقت الذي كانت تقام حفلات عيد الميلاد في ذلك الوقت في مطعم ”الأرنب الجائع“، أو ”شوبيز“ أو ”هارديز“ بعد ذلك. وكنت مستعداً ألا يُقدّم فيها أيّ شيء سوى أن أظفر بالهدايا، وأعيش تجربة المفاجأة بعد شقّ الأغلفة من عليها.

وهنا بدأ الحوار ”الساخن“ مع والدي!

 

والدي : عيد الميلاد بدعة غير حسنة، ولا أعياد عندنا غير الأعياد المنصوصة.

أنا : طيّب، لماذا تحتفل بعيد ميلاد الأئمة، عليهم السلام في المواليد؟

والدي : وهل أنت إمامٌ أو عظيمٌ من العظماء لنحتفل بعيد ميلادك؟!

في محاولة للمراوغة مني. أنا : طيّب ما رأيك لو احتفلت بعيد ميلادي بالتاريخ الهجريّ بدلاً من التاريخ الميلادي؟ ألن يكون عملاً إسلامياً آنذاك؟!

والدي: حيلة فاشلة، “دوّر غيرها”

بعد سنوات، ومع تقدّم قرائتي للنصوص الدينية وسير العلماء، جئت بحجّة جديدة، أترقب فيها النصر المظفّر.

 

أنا : هل تعلم يا والدي أن السيد ابن طاووس، وهو من علماءنا الأعلام، ابن الحلة، والخبير في المرويات، كان يحتفل بعيد ميلاده، لأنه يعتبر ذلك هو اليوم الذي ”كَمُل“ فيه بالتشرف بأن يكون محلاً للتكليف الإلهي.

والدي ينظر إلي من طرف عينيه: هذا تعليل بارد!

 

وباءت كل المحاولات بالفشل، ومضى العمر، وخرجت من طور الصبى إلى الفتوة ثم إلى الشباب، وما عاد لعيد الميلاد حاجة، خصوصاً تلك الهدايا التي كنت أنتظرها. ذهب الشغف، وبقيت الغصّة.

تغيّرت الأمور، وتقلّب الزمن، وجرت المقادير. وجدت نفسي بعد ذلك أبدأ مرحلة الدراسات العليا في بريطانيا. صاحَبَ هذه التجربة ما صاحبها. لكن في السنة الأولى وبعد الانتهاء من برنامج تعلم اللغة، ومع بداية الإندماج في ثقافة المجتمع الغربي البريطاني، لفت انتباهي ما للـ“ترجمة“ من دورٍ خطيرٍ في فهم ثقافات الشعوب، وبالتالي في تحديد الموقف منها. وكان مما تذكرته ضاحكاً موضوع عيد الميلاد. إذ أنّ المترجم الأول لهذه الثقافة عندما ترجمها بـ“عيد“ ميلاد أحدثَ كل هذه الشَوْشَرة والتشويش والجدل، وأفقدني – وهو المهم في الكلام – لذّة الهدايا. ذلك في الوقت الذي تعتبر هذه المناسبة ليست عيداً بل هي (birth – day) أيّ يوم ميلاد. والكلام نفسه ينطبق على عيد الأمّ وعيد الأب وعيد المعلم وعيد التحرير … وغيرها من المناسبات التي ”تُرجمت“ خطئاً بـ“أعياد“.

ماذا لو أنني قلت لوالدي منذ البداية أن المسألة ليست عيداً بل ”يوم“ ميلاد؟ ألست كنت سأظفر بالنقاش، والأهم بالهدايا؟

فتعساً للمترجم البليد!

هذه القصة، بتفاصيلها، تتشابه، وربما تتطابق، مع قصة ”العلم“ والدين في الجدل العربي الإسلامي المعاصر!

 

  • وإليك الحكاية من البداية!

هكذا تبدو لي الأمور؛ أنّ المعاني أشبه بغيوم تسبح في أذهاننا، فإذا ما أردنا التعبير عنها أنزلناها بقوالب لفظية. وهنا نحن نمارس أخطر فعل يقوم به الإنسان وهو ”تسمية“ الأشياء، هذه العملية التي ميّزتنا عن بقية المخلوقات، وبها تفاضلنا بل وبها نمارس ”التسلط“ بمختلف صوره بين بعضما البعض. ولهذا حديث طويل عند هواة واختصاصي اللغات وعلاقتها بالقوة.

وهنا لا أريد الحديث عن تاريخ وعي الإنسان بنفسه والعالم أو العوالم الممكنة في مختلف الحضارات بل ما أود التركيز عليه هو ”نشاط محدد“ له ”اسم“، و“مُسمِّي“، و“مُسَمّى“، أيّ له تاريخ. ذلك هو الـ(Science)، والُمترجَم عندنا (تَعساً مرة أخرى لذلك المترجم) بـ(العلم).

في التراث الغربي، إجمالاً وعموماً، والذي يعود – غالباً – لأثينا كمحور انطلاقة، فإنّ النشاط المعرفي الذي يتناول عالم الطبيعة بمختلف صوره الحيّة وغير الحيّة كان يسمى بـ(الفلسفة الطبيعية Natural Philosophy). ذلك حينما كانت المعارف البشرية تبدأ وتنتهي عند أمّها الحنون وهي (الفلسفة)؛ والتي كان لها من الأولاد ثلاثة ومن البنات واحدة. أولادها هم: المنطق، وأخوه الرياضيات، وأخوهم الكبير الإلهيات. أما أختهم فالفلسفة الطبيعية. وظلّت هذه التسمية حتى في عزّ ما عُرف بعد ذلك بـ“الثورة العلمية“، أيّ أنّه – غربياً – ظلّ كذلك في عصر النهضة (Renaissance) وعصر التنوير. (Enlightenment)

فهو الاسم الذي كان يطلق على جهود المفكرين آنذاك (والذين نسميهم اليوم بـ“العلماء“ وهذا التحوّل غاية في الأهمية) ممن تُنسب إليهم جهود تشكّل ”العلم الحديث“ أمثال فرنسيس بيكون، وديكارت بل ونيوتن وغيرهم. ولا أدّل على ذلك من اسم كتاب نيوتن الذي وضع فيه قوانينه (التي طالما اتعبتنا في دراسة الثانوية!) للحركة، والجذب العام، والتي صاغت الفيزياء الميكانيكية التقليدية حتى عُدّ العالَمُ الذي تلاهُ بعالمِ نيوتن، فقد كان اسمه (الأسس الرياضية للفلسفة الطبيعية (Philosophiæ Naturalis Principia Mathematica) وقد كتب باللاتينية الحديثة حينما كانت اللاتينية لا تزال لغة المعارف التي تتصل بجذورها اليونانية، والذي نُشر في الخامس من يوليو عام ١٦٨٧م.

يُخبرنا معجم أكسفورد لأصول الكلمات وتاريخها الاستعمالي (Oxford Dictionary of English Etymology ) بأنّ كلمة (Science) ترجع في أصولها إلى اللاتينية (scio)، ثم زحفت استعمالياً في القرن الثاني عشر إلى الفرنسية (cience)، وكانت متداولة في الإنكليزية منذ القرن الرابع عشر. حدودها الدلالية آنذاك لم تكن إلا بمعنى ”المعرفة المستندة إلى خبرة أو حس أو شيء من الاتصال الملموس“ وأحياناً المسددة بمعونة إلهية. وهي بذلك أقرب لكلمة ”المعرفة“ في اللغة العربية منها إلى العلم دلالياً. حيث تعني المعرفة أنها علم تفصيلي بشيء.

لم تُعمّد الكلمة (Science) للدلالة على ”نشاط معرفي منظم يعتمد بالدرجة الأولى الحسّ من خلال التجربة كسبيل للمعرفة“ إلا على يد الرياضي الكبير في جامعة كيمبرج وليم هيول (William Whewell) في حدود عام ١٨٥٠م. ومع ترابط هذا النشاط بالنشاط الصناعي والحرفي والطبيّ، وهنا كلام مهم!، وارتباطه أيضاً بالسلطة السياسية وطموحاتها تنامى هذا الحقل أكثر وبدأ بالتمايز عن بقية النشاطات المعرفية، فكان أشبه بولادة أخ جديد لبقية أبناء الفلسفة الأمّ، لكنه سرعان ما تحول إلى إبن عاقّ، رغم كل نياته الطيبة في اصلاح أسرته الكريمة، وسعيه لترشيده والدته بأن تكون أكثر واقعية وتترك النظر في السماء كثيراً. كما أنّه سرعان ما خاصم أخاه الكبير الإلهيات، وأخذ في جانبه كلاً من أخويه المنطق والرياضيات، أما أخته التي ربّته صغيراً فقد عكف على تجريدها من كل صلاتها بأمها وأرادها أن تسير على ميزانه فحسب.

هذا التمايز بين حقل المعارف الحسيّة التجريبية (Science)، وعموم المعرفة (Knowledge)، والمعلومات الجزئية (Data) والفلسفة (Philosophy)، والحكمة العامة (Wisdom)، تبدو متباينة بشكل شبه واضح للمتحدث باللغة الإنكليزية لأن ذاكرته التاريخية المحمولة باللغة تشير لهذا التمايز.

لكن ما الذي فعله المترجم العربي عندما نقل لنا هذه الكلمة؟!

وهنا نهاية الحكاية!

نحن كحضارة إسلامية، لكلمة (علم) رنينٌ عميقٌ في وجداننا، يتموّج بأطياف من القداسة والرفعة والاحترام. وإذا ما اقترنت هذه الكلمة بتاريخ عريق من المدنية، وتراث أقل ما يقال فيه أنّه مفخرة (على الرغم من التحطيم الممنهج لهذه الذاكرة التاريخية الناهضة)، فإن رنين الكلمة يزداد جمالاً. في مثل هذا السياق، وعندما تُنقل إلينا معارف شتى الحضارات ممهورة بالشمع الأحمر باسم (العلم)، فإن العقل الجمعي الوجدان العادي للإنسان المسلم يهفو إليها بشَغَف، خصوصاً بعد ضمأ حضاري عاشه فترة من الزمن، ذلك أن ”العلم يُطلب ولو كان في الصين“، وأن ”الحكمة تؤخذ ولو من الكلب العقور أو أفواه المجانين“. هكذا هو المأثور.

لكن ما حدث ليس ذلك، إذ لم تُسمّ الأمور بمسمياتها، ولو أنها سُميت كما يجب لكان حالنا – في كثير من جوانبه – أكثر رشداً وأقلّ جدلاً وأقوم طريقة. وهنا تحديداً كبوة المترجم (تعساً له للمرة الثالثة) حين سمّى كلمة (Science) على أنها (علم) مهديها بلا حساب كل الظلال الوفيرة من القداسة والاحترام والجمال. فباتت خصيماً أو مقياساً للحقيقة الدينية أو الحكمة أو الخلق الأصيل أو العادة الحسنة. وإذا ما توحّشَتْ ببرود بعض حامليها صارت غولاً يريد التهام الإنسان محوّلاً إياه إلى كتلة من الجينات الأنانية المغامرة بعشوائية في دهاليز العصور لتصل إلى الفوضى لهواً ولعباً وما يهلكها إلا الدهر.

ماذا لو ترجمت كلمة (Science) بـ“المعرفة الحسية“، وسمينا رواده المُسَمَون اليوم بالعلماء الـ(Scientists) بالحسيين أو الماديين أو الدراسين للطبيعة بأدوات كمية؟! أ تُرى هل كنّا سنخوض بهذا التشويش كل هذه الحوارات غير الهادفة حول العلم (وهو هنا المعرفة الحسية المادية الكمية) والدين؟! وهل كان سيكون كل نقيض للمعرفة الحسيّة خرافةً أو أسطورةً؟! أم هل يجب أن توضع كل المعارف والتصورات والخبرات تحت مجهر المعرفة الحسية؟! هل سيُعقل للإنسان العادي أنّ المصدر الوحيد للحق والحقيقة والصدق هو الحسّ؟! أليست كل هذه الأسئلة كانت ستكون أكثر هدوءً لو أحسنّا ”التسمية“؟!

ولك الآن عزيزي القارئ أنّ تتخيل حواري مع والدي (وتستغرق في الضحك) حول عيد الميلاد وتقارنه بحوارات الكثيرين حول العلم والدين!

فتعساً للمترجم العربي! (للمرة الرابعة)

تنويه: هذه ليست المشكلة الوحيدة لمسألة ”العلم“ والدين في عالمنا العربي والإسلامي، لكنها وجه مهم منها. لعلنا نوفق في القادم من الأيام لتشريح المشكلة أكثر في جوابنها الأخرى!

عن المؤلف

الشيخ حسن البلوشي

اترك تعليقا