ثقافة رسالية

كيف ساعدت “صِدام الحضارات” الغربَ في فك عقدة الانتشار الاسلامي؟

هل الحضارات تتصادم؟

وهل أن إحداها تنفي الثانية، ولا يمكن أن تنمو حضارة إلا على حساب حضارة  أخرى؟

هنالك نظرية أثارها صامويل هنتنغتون (Samuel Huntington) في عام 1993م، وسماه (صدام الحضارات)، وتقول نظريته: “إن الصراعات ما بعد الحرب الباردة لن تكون بين الدول القومية اطلاقامن اختلافاتها السياسية والاقتصادية، بل ستكون الاختلافات الثقافية هي المحرك الرئيسي للنزاعات بين البشر ف السنين القادمة”.

وكانت نظرية هذا الرجل ردَّاً مباشرا على أطروحة تلميذه فرانسيز فوكوياما (Francis Fukuyama)، التي سماها (نهاية التاريخ والإنسان الأخير)، حيث كانت تقوم نظريته على أساس أنه بنهاية الحرب الباردة ستكون الديمقراطية الليبرالية الشكل الغالب على الأنظمة حول العالم، وأنه لن يكون هناك نظام آخر من الناحية السياسية إلا النظام الغربي، ومن الناحية الاقتصادية إلا اقتصاد السوق، لكن صامويل هنتنغتون اعتبر أن النزاع كان ايديولوجيا بين الرأسمالية والشيوعية ولكن النزاع القادم سيتخذ شكلا مختلفا، ويكون بين حضارات محتملة وهي:

  • الحضارة الغربية.
  • الحضارة اللاتينية
  • الحضارة اليابانية
  • الحضارة الصينية
  • الحضارة الهندية
  • الحضارة الإسلامية
  • الحضارة الأرثوذكسية
  • الحضارة الإفريقية
  • الحضارة البوذية.

وتقوم نظرية الرجل على أن الخلافات الثقافية ـ وليست الأيديولوجية أو القومية ـ هي التي ستتكون بؤرة الحروب القادمة، وأن الخلافات أو الخصائص الثقافية لا يمكن تغييرها، مثلما يمكن تغيير الانتماءات الأيديولوجية، فالرجل ربما يغير انتمائه من شيوعي الى ليبرالي، ولكن لا يمكن للروسي مثلا أن يصبح فارسيا، وفي الصراعات الايدولوجية يمكن للناس مثلا أن يختاروا الجانب الذي يؤيدونه، وهو ما لا يحدث في الصراع الثقافي أو الحضاري، ونفس المنطق في نظره ينطبق على الدين، فبإمكان المرء أن  يحمل جنسيتين فرنسية و جزائرية مثلا، ولكن لا يمكن أن يكون مسلما وكاثوليكيا في آن واحد.

غير أن الرجل يركز في نظريته على الإسلام، ويدعي بأن حدود الإسلام دموية، وكذلك مناطقه الداخلية، مشيرا الى صراعات المسلمين مع الأديان الاخرى مثلما حدث في السودان في الصراع بين الشمال والجنوب، والهند وباكستان، والصراعات داخل الهند نفسها بين المسلمين والهندوس، ويحدد الصراع الحقيقي بين العالم المسيحي من جهة، والعالم الاسلامي من جهة أخرى، ويستشهد بالغزو العراقي للكويت عام 1990، ويدعي بأن شعبية صدام حسين كانت مرتفعة في أوساط الشعوب العربية برغم أن معظم الأنظمة لم تؤيد موقفه، وانضمت لتحالف دولي بقيادة الولايات المتحدة لتحرير الكويت، وأن صدام حسين استعمل خطابا شعبويا صور فيه الحرب بأنها حرب بين حضارتين مختلفتين، وادعى بأن البعض رأى أن التحالف ضد صدام إنما كان تحالفا غربيا ضد الإسلام!

غير أن الرجل لا يستشهد بالحروب التي خاضها الغرب ضد كثير من المناطق بداوفع مماثلة، حتى أن الحرب العالمية الأولى والثانية كانت حربا غربية، وقتل فيها أكثر من 77 مليون إنسان، هذه الحدود الدموية لا يأخذها الرجل بعين الاعتبار، إنما يذهب لغزو صدام حسين للكويت، ويستشهد بما قاله صدام، وهو مجرد ادعاء ادعاه طاغوت علماني بعثي، حيث ادعى بأن التحالف الغربي ضده هو تحالف ضد الإسلام.

ويسنى الرجل أو يتناسى دور الغرب في استعمار الشعوب بأكلمها، وما ارتكبوه من مجازر بحق الأفريقيين، وبحق الهنود، والجزائريين الذين كانوا يقاومون الاحتلال، كل ذلك لا يذكره الرجل، او يتناساه؛ ثم يقول: “إن قيم الديمقراطية، وحقوق الإنسان والحرية، والعلمانية، والدستور، وإن كانت قيما عالمية تستفيد منها البشرية جمعاء، إلا أن ذلك لا يعتبر منطقا في عقلية المسلمين.

ثم يحدد الرجل سيناريوهات الصراع بين الغرب ومن سماهم بآخرين، وعلى الأكثر يقصد المسلمين، بثلاث سيناريوهات:

الأول: أن تحاول الدول الإسلامية عزل نفسها، وحماية مجتمعاتها من الفساد الغربي، والانعزال عن الساحة الدولية، ولكن ثمن ذلك باهظ، وليس لديها القدرة على تنفيذ ذلك.

السيناريو الثاني: أن تعمل تلك الدول بالتحالف مع الغرب، وتغريب مجتمعاتها، وتفرض الثقافة الغربية على أفرادها كما فعلت تركيا في زمن مصطفى اتا تورك.

السيناريو الثالث: أن تتحالف تلك الدول مع حضارات أخرى غيرعربية كالبوذية، وتسعى لتشكيل قوة اقتصادية وعسكرية معها بغرض تحقيق التوازن أمام الدول الغربية.

ثم ينتهي إلى القول بأن الصراع القادم سيكون صراعا ثقافيا وليس صراعا على مصالح ومنافع، وسيكون بين الغرب والآخرين، ويقصد بين الغرب والدول ذات الأغلبية المسلمة.

وقبل الدخول في تفاصيل هذه النظرية لابد من بيان أن الرجل كان مستشارا للرئيس الأمريكي الأسبق، وكان موظفا في وزارة الخارجية الأمريكية، فهو في الحقيقية ينظّر لليمين الأمريكي، ومن ثم لا يمكن أخذ ما توصل إليه كأمر علمي محايد، لأن العلم ـ مع الأسف ـ في الغرب لا يأخذ شكلا محايدا، فالعلم عندهم في خدمة السياسة، أو في خدمة الاقتصاد، او في خدمتهما معا.

فمثلا إحدى الشركات تنتج منتجا معينا، ثم تستخدم مجموعة من العلماء لكي يجعلوا ذلك المنتج من الأمور الضرورية للإنسان، فإذا أقام احدهم مصنعا لتعليب المياه، فهو يستخدم مجموعة من العلماء ليبينوا للناس أن شرب 10 لترات من الماء أمر ضروري لصحة الإنسان، وهكذا في بقية الأمور.

كذلك فإن الموظفين في الخارجية الأمريكية يوظفون ثقتافتهم لتبرير سياسات الدولة العميقة عندهم.

لقد كان صامويل هنتنغتون استاذا جامعيا يدرس في جامعة هارفارد لمدة تزيد عن الخسمين عاما، وقد ولد في مدينة نيويورك في الثامن عشر من نيسان/ أبريل عام1927، وكان والده يعمل كناشر في صحيفة مختصة في الترويج للفنادق، وكانت أمه كاتبة قصصية.

وتولى مجموعة من المناصب منها مصب مدير مساعد في مركز الدراسات للحرب والسلم، في الفترة ما بين عامي 1959 و 1962م، وتولّى منصب رئيس الجمعية الأمريكية للعلوم السياسية من عام 1986 حتى عام 1987م، وأيضا ساهم في إصدار مجلة فورين بوليسي (Foreign policy Magazine)، وشغل منصب مدير معهد الدراسات الذي أسسه معهد جون أولان، وكذلك كان مديرا لأكاديمية هارفاد للدراسات الدولية، ومستشارا في السياسة الأمريكية الخارجية في حملة هوبرت الرئاسية للانتخابات في عام 1978م، وتولى منصب مدير التخطيط الأمني بين عامي 1977م، في مجلس الأمن القومي ، ومثل هذا الرجل لا يتوقع أن يكون محايدا وهو منظّر للسياسة الأمريكية، خاصة لليمين الأمريكي.

ونلخص الإشكال على هذه النظرية في النقطة التالية:

إن الرجل يتعامل مع الظواهر السياسية كمسلمات جوهرية في ثقافات الشعوب، ويتجاهل حركات البشر المؤثرة على عملية تبلور الهويات، فهي نظرية بامتياز، وتلقى هذه النظرية رواجا لدى الحركات الإسلامية المتطرفة، لأنهم أساسا يريدون تغذية فكرة العداء مع غيرهم، ويستفيدون من نظرية صدام الحضارات.

ويتجاهل الرجل التاريخ الطويل الذي مرت به أوروبا، ويريد أن يجعل من الحضارات والهويات كيانات مغلقة تم تطهيرها من التيارات التي حركت وتحرك التاريخ البشري، ثم أنه يرى أن محور الحضارة هي امريكا، فإذا تقدمت جماعة جيدة، وإذا خالفت سياستها فهي جماعة مرفوضة، وتريد تقويض الحضارة البشرية القائمة، وواضح أن ما سماه بصدام الحضارات نظرية غير دقيقة اطلاقا.

ومن الأدلة التي يمكن ذكرها ضد نظرية ( صِدام الحضارات) أن كوريا الجنوبية، وكوريا الشمالية، وتايوان، والصين، وسنغافوة، وفيتنام، واليابان، كلها دول متقاربة ثقافيا فهي تعتمد على البوذية، ولكنها متنافرة جدا، والديمقراطيات الرأسمالية المزدهرة من كوريا الجنوبية إلى تايوان، تشكل انتهاكا صارخا لمنطق الرجل على ما نراه، فلا يوجد أي سبب لترجيح تحول كوريا الجنوبية من دول رأسمالية ديمقراطية مزدهرة إلى كوريا الشمالية بمجرد أنهم في الحقيقة شعب واحد، الاختلافات والتحولات الثقافية والسياسية والاقتصادية التي مرت بها كوريا الجنوبية تجعل الالتقاء مع كوريا الشمالية صعبا، طالما بقي النظام في كوريا الشمالية يعتمد على الحزب الواحد والشخص الواحد.

ثم تعبير: إن الولايات المتحدة هي أمة مسيحية غير صحيح، وغير دقيق، فالأمريكيون يميلون إلى أن يكونوا أكثر تدينا مقارنة بالأوربيين مثلا، ولكن الممارسات الشخصية لا تجعل الدولة تقوم على أساس مسيحي، خاصة وأن الإصلاح البروتستاني لعب دورا كبيرا في تأسيس الولايات المتحدة، وكان جزءاً محوريا من القومية الأمريكية خلال السنين الأولى.

وكانت هناك مناقشات مجتمعية ونخبوية بذكر الرب في الدستور، ولكن الولايات المتحدة الأمريكية لا تعتبر دولة مسيحية، ومن ثم فإن صراعها مع بقية الدول هو صراع اقتصادي، وليس صراعا ثقافيا كما يقول صاحب كتاب (صِدام الحضارات).

إن صامويل هنتنغتون لا يريد أن يرى حضارة في مقابل الحضارة القائمة، ولذلك فإنه يحاول أن يجعل الحضارة الغربية محورا وميزانا، ثم يتحدث عن ظهور حضارات اخرى وكأنها شذوذ، وهي في نظره في تصادم مع حضارته، فمثلا يتحدث عن تأثير الغرب النسبي الذي بدأ بالتناقض، فهو يرى أن الحضارات الآسيوية أصبحت ذات قوة أكبر في مختلف المجالات الاقتصادية والسياسية وحتى العسكرية، وأن العالم الإسلامي أصبح قوة حقيقية، ويعتبرهذا الأمر عامل تهديد للحضارات التي تجاورها على حد رأيه.

وقد قدم الرجل مجموعة من الإحصاءات التي تُظهر تناقض الأوروبيين بالنسبة للعدد  الإجمالي لسكّان العالم، وفي المقابل تزايد عدد الآسيويين المسلمين.

وصعود الإسلام من الأمور التي تحدث عنها الرجل في كتابه صراع الحضارات، وقد ذكر الامتداد الاسلامي من الناحية الجغرافية، وكذلك من الناحية السكانية، حيث وصلت مساحة البلاد الاسلامية الى ما يقارب 12% من مساحة المعمورة في الأرض، ووصل عدد المسلمين الى اكثر من مليار نسمة، كما أنهم سيطروا على نسبة كبيرة من الاحتياطي العالمي للنفط والغاز.

والسؤال هو التالي: إذا زاد عدد المسلمين فأين تكمن المشكلة؟

المشكلة في نظر هنتنغتون هي في ضرورة عدد المسلمين حتى تبقى الحضارة الغربية مسيطرة، ويتحدث عن السيطرة على النفط والغاز، مع أن النفط والغاز مواهب إلهية لهذه الأرض وللمسلمين، ما المشكلة إذا كانت آبار البترول في بلاد المسلمين؟ مع أن النفط عادة ما هو في خدمة الغربيين، ويتحدث عن انتشار الاسلام وكأنه انتشار للأوبئة، حتى في داخل الولايات المتحدة الأمريكية، فما هو ذنب الناس إذا آمنوا بالإسلام، سواء كانوا أمريكيين، أو اوروبيين، أو آسيويين؟

لماذا نتهم من يصبح مسلما بأنه عدو، ولابد من محاربته، واقتلاعه من جذوره؟

وفي الحقيقة فإن صاحب كتاب (صِدام الحضارات) لم يأتِ بشيء جديد، فقد كانت هذه النظرية موجودة قديما عندما جمع من الأكاديميين في الغرب والشرق وما فعله صامويل هنتنغتون هو إعادة صياغة أفكارهم بطريقة جديدة.

الرجل يصنف بعض الحضارات على أساس ديني كالحضارة الاسلامية، والبعض الآخر على اساس جغرافي كالحضارة الغربية، ويتجاهل الصراع الموجود بين الولايات المتحدة الأمريكية واليابان على أساس الاقتصاد وليس الاختلاف الثقافي.

ثم ثم ن الرجل يستشهد بحادثة معنية، او بجماعة متطرفة هنا أو هناك لكي يصيغ على اساسها نظريته، فمثلا أحداث 11 سبتمبر 2001م، يعتبرها مؤامرة اسلامية على الغرب، مع أنها كانت لا تمثل الاسلام ولا المسلمين.

 

عن المؤلف

آية الله السيد هادي المدرسي

اترك تعليقا