منذ ذلك السحيق والجزيرة العربية ـ بالرغم عن أنها كانت مهدا من المهود التي نشأت فيها أفواج من الإنسان: حضانة ورعرعة، وتطويرا ـ لا تتمكن من أن تملأ خواصرها من انتاج ارحامها.
لقد كان لها الجسم الممدود، مطروحا، كأنه المارد المسحور، او العملاق المخمور، لها اثداء ضامرة شحت عليها مجاري الدر. ليس لكل ذلك تفسير اجلى من أن المناخ الذي تشويه لفحات الشموس لا يوفر أكثر من مركز حضانة يحتاج اليه هذا التطور من التكوين، لمدة معينة من العمر، يتعداها، إذ تفيض الحاجة عنها، الى سواها، اخف وطأة منها واغرز طاقة.
لقد انعكست هذه النواميس في تطبيق نفسها على أرض الجزيرة: فالإنسان الأول الذي تنسى له أن يلتقط بالحياة في شعبة، مثلا، من شعاب النفوذ، ما طال به المقام حتى راح يقفز شمالا صوب دومة الجندل أو صوب وادي سرحان، وجنوبا نحو تيماء أو صوب وادي القرى، ليؤلف مع الوقت: قبيلة بني كلب، او بني لخم، او بني غدوان، أو بني اسد، او بني غطفان، حتى يتوصل الى بناء حصون خيبر. والإنسان الذي تمكن من أن يلتقط بأسباب الحياة في حنوة من حنوات الرُبع الخالي، لم يثبت أن نفر شرقا، وجنوبا، وغربا، وشمالا، على طول الدائرة التي تتكفكف خلفها معارج البحرين، ومداخل عُمان، وخطوط حضرموت، ومعاطف اليمن، ومفارق مكة ، في خطوطها المتشعبة نحو الطائف، او نحو يثرب، او نحو اليمامة، لتتكون، فيما بعد، على التوالي، مئات من القبائل منها: ربيعة، وبكر، ومضر، كندة، والحارث، ومراد، وخزاعة، وسليم، وغطفان، وعامر، وتميم.
كل ذلك بالقدر الذي وفره المناخ منعكسا على الرقعة التي تمكنت من انبات عشبة الكلأ للناقة والشاة اللتين كان عليهما عماد الأود. وكان ذلك بالقدر الذي درت به سحب الغمام في زياراتها النادرة للفسحة المترامية الأطراف: من المحيط الهندي الى قوس الصحراء، ومن مفاسح الحيرة مرورا بالنفوذ التائهة صوب الربع الخالي منهوكا على شواطىء عمان، وكان ذلك أيضا بالقدر الذي تأهلت به فسحة الواحات في تلقطها لكل تربة طرية سوداء، او في تشبثها بذيل كل سحابة.
نشأت من ذلك وَحَدَات تتفاوت عليها قوة الدر: فحيث كانت وطأة الهجرة مجهدة، جاءت تحتها تربة مسيكة، وحيث كانت مسارب الغمام رفيقة، ارشم الشجر والنخيل.
وبين بقعة شحيحة قاترة، واخرى مستكفية قانعة، تطاولت مساحات محروقة، على مسافات شاسعة ممدوة، كانت البعد فيما بينها سببا في قطع اللحمة، وبتر أسباب الاتصال، فتناثرت ـ هنا وهناك ـ قبائلُ قبائل، تتفاوت أيضا نسبة قوتها، وطلائع تقدمها مع نسبة ما توفر لها تلك الفُسَحُ من الأرض التي انكفأت اليها، وكان الشح الذي يصيب هذه يجلها تتطلع الى هنا وهناك، أين يمكنها أن تسد نقصا أصابها، وتستعيض عن رزق فاتها، أو حاجة تشد اليها الملتمس، فراحت يغير بعضها على بعض ـ غزوا ونهبا ـ ليرحل الضعيف منها مشردا على صفحة الصحراء.
تلك كانت أساليب الغزو باعتمادها ضروب الفروسية، والباسها حلل البطولات.
وراح الغزو يتطور ويتطاول من جوار الى جواز، حتى تم اختراق الكثيف من خط الرمال، وانفتحت العين على المطل الأخضر. لم يكن ذلك على شاطىء المحيط، ولا على مضيق عمان، ولا حتى على سواحل الأحمر.
هناك ـ بعد هذا الكثيف من خط الرمال ـ ممدود خضراء، خُطت على جانبي دجلة، وعلى جانبي نهر الفرات، وعلى كل مفارش الغوطة ينزُّ عليها بردى، وهناك أيضا مشارف، غير اليمن، تغتسل اقدامها على الشاطىء الأبيض.
هكذا أخذ الرحيل يعبّىء الرحلات، موجات إثر موجات، الى كل هذه الرقاع، حيث استقر، فيما بعد: بنو اياد، وبنو حديلة، وبنو تغلب، وبنو لخم، وبنو غسان.
غير أن الرحيل الذي استوعبته هذه الهجرات، لا يعني أن ارض الجزيرة قد فرغت من السكان، فالهجرات التاريخية كانت تعيبرا عن هذا الفائض من السكان عن الطاقة التي توفرها موارد الصحراء. تلك الطاقة هي بالنسبة الى انتاج الاقتصادي الحياتي فيها، وليس بالنسبة الى الرقعة التي لو قدر لها غير الشح، لمئات الملايين.
إلا أن الموضوع لا يقصد كل هذا الاستيعاب، انما يحاول أن يشير الى كون الجزيرة العربية، بوضعها المناخي، وبوضعها الجغرافي والجيولوجي، انشأت شعبا تفسخ ـ بفعل البيئة ـ قبائلَ توزعتها الواحات، واستأثرت بكل وحدة منها مراكز الخِصب ومراكز المساقي.
وكانت بالتالي ـ وان شعبا واحدا تجمعه القربى، إنْ في الأرض الأم، او في كل جوار فاضت عليه ـ لا يجمعها هذا الحس الموحَّد، وهذا الشعور الجامع، في تقرير تعيين المصير.
وكانت ـ بالرغم من كل هذه الأسباب التي تقف حائلا دون نموها الاقتصادي والحضاري، وبالتالي نموها الاجتماعي ـ تشكل ـ بفُسحةِ أرضها على الأقل ـ قوة مرهوبة وقفت على حافتيها كتلتا الشرق والغرب، تتجاذبان من فوقها حبال النفوذ.
ما كان ذلك ليَضيرها يوم كان السومريون الأكاديون وحدهم قيمين على حضارة العالم القديم. أما اليوم، بعد أن نشطت قبائل اليونان والرومان، وبرزت الى الوجود قبائل الفرس، وتمَّ لهاتين القوتين فضل الاقتباس والتحضر، فإن بلاد الرافدين والحوض الكنعاني اصبحا يعانيان من قدح حوافر الخيول فوق أرضيهما، إنْ من الشرق أو من الغرب. وها هي بيزنطيا اليوم تتساجل فوق هذه الحرمات، مع أكاسرة الفرس، لتأمين مراكز الصمود.
وبقيت الجزيرة العربية، بشمالها وجنوبها، تعاني أكثر من أيٍّ من هذه الأقطار شدة الافتقار الى الُلحمة التي يتوافر بها مصير الشعوب.
وبقيت القبائل على الأنماط ذاتها، من سطحية التفكير، وسطحية التحسس، وسطحية الرؤى، وبقيت لها العادات والتقاليد متحجرة في قوالبِ الطقوس، دون أيّ نهج، أو أي تجديد، أو أي تقييم.
وكانت مع أي حال، يتنكر لها هذا الاستنباط تولده الحضارات في المجتمعات المتطورة، ليس لفقرها أو لفقر الإنسان فيها ولا غير، بل لأكثر من ذلك، لإفتقار المجتمع الإنساني فيها الى تلك الُلحمة التي تجعله متماسكا، حتى يكون بالتالي محققا، ومتطورا، ومولَّدا.
إن مجتمع الجزيرة كان بحاجة ماسة إلى إيقاظ، وكان بالتالي بأمس الحاجة إلى بطل عبقري جَنَاحيه فوق نفوذ الجزيرة وفوق رُبعها الخالي، على السواء، يعجن من تربتها عجينة متماسكة وصالحة وصالحة لأن يبث فيها حرارة الحياة.
—————————————————–
- مقتبس من كتاب ـ محمد شاطىء وسحاب ـ للكاتب سليمان كتاني.