نجد دائماً أن كلمة الحق والصدق أقوى سلاح أمام الحاكم الجائر، لذا يحاول هؤلاء الحكام اسكات أصحاب كلمة الحق أو تضليلها لكي لا تصل إلى الناس، فيستخدمون شتى سبل العنف من أجل ذلك، فيقومون بتضليل الناس وخداعهم بالكذب والمديح الباطل لهم، واستخدام الإمكانات المادية والنفوذ الذي تحت سيطرته فيكون مستبداً وطاغية ودكتاتوراً في سلطانه على الناس يصل إلى درجة تصديقه أنه على حق، وهو ما يشير اليه القرآن الكريم: {لَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا}، (سورة الكهف: 104)، فبعد تخلصهم من أصحاب الحق يتصورون أنهم منتصرون بنفوذهم وأموالهم وسيوفهم، كما هو حالنا في الوقت الحاضر.
فهذا هو حال ابن مرجانة عندما صعد على منبر الكوفة ليظهر أمام الناس انه منتصر، بعد ما نال الخزي والعار من خطاب زينب، عليه السلام، والإمام زين العابدين وأم كلثوم، وسائر أهل البيت، عليهم السلام، ليبينوا للناس زيف حكام بني امية وواقعهم الفاسد وانحرافهم عن الدين وتزييفه واظهاره بالصورة التي تهواها مصالحهم.
وذات مرة، وبينما كان منطلقاً في تضليل الحقائق وتوجيه التهم الى أهل بيت رسول الله، حيث قال امام حشد من الناس: «الحمد لله الذي أظهر الحق وأهله، ونصر الأمير يزيد وأشياعه، وقتل الكذاب ابن الكذاب….»!! وكان الصمت يخيم على الجميع، إلا من شخص رسالي وهو؛ عبد الله بن عفيف الأزدي، وكان من خيار الشيعة وزهّادها، وكانت عينه اليسرى ذهبت في يوم الجمل والاُخرى يوم صفّين، وكان يلازم المسجد الأعظم يصلّي فيه إلى الليل، فقام منتفضاً وتصدّى بالقول: «يابن مرجانة، إنّ الكذّاب ابن الكذّاب أنت وأبوك، ومَن استعملك وأبوه، يا عدوّ الله، أتقتلون أبناء النبيّين وتتكلّمون بهذا الكلام على منابر المسلمين».
كلمة الحق الصاعقة هذه، وبحضور جمع غفير من الناس في الكوفة، فاجأت بن زياد، ولم يكن يتوقعها من قبل، فكانت الكلمة كالسيف القاطع على رقبته، وأظهرت الوجه الحقيقي للسلطة الحاكمة لبني امية؛ بعد ما كانت مغطاة بغطاء يظهر امام الناس أنها دولة اسلامية تدير مصلحة المسلمين.
هنا؛ سأل بن زياد عن هوية المتكلم، فقيل له: انه عبد الله بن عفيف الأزدي، وربما كان لا يعرفه ولكنه كان من خيار اصحاب امير المؤمنين، وكان ملازماً المسجد، يصلي ويعبد الله – تعالى – والايمان يملأ قلبه، حتى جاءت المواجهة الكبرى بين الحق والباطل، فكان يتمنى ان ينال الشهادة في الحروب الثلاثة التي خاضها مع امير المؤمنين، وكان دائما يسأل الله – تعالى – أن يموت على يد أرذل خلقه، وقد قالها أمام ابن زياد عندما اعتقله الجلاوزة وأتوا به، بأني كنت اتمنى الشهادة في جبهة الحق الى جانب الامام علي، عليه السلام، وبعد تعرضي للعمى، يئست منها، وقد دعوت الله – تعالى – بأن أرزق الشهادة قبل ان تلدك أمك، وان تكون ذلك على يد ألعن خلقه وأبغضهم اليه. والآن؛ أحمد الله على ان رزقني الشهادة بعد اليأس منها.
وقد كانت السعادة الأبدية من نصيب هذا الانسان العظيم، الذي تجاوز حالة العوق بكل ثقة واعتداد، فهو لا يتمكن من نصرة الحق بيده، إلا انه يتمكن بلسانه عندما سمع الباطل فتصدى له بلسان الحق الذي لم يشهد مثيله في التاريخ.
وبعد هذا الرد الشجاع طارده الجلاوزة إلى بيته بعد أن أخرجه بنو عشيرته من المسجد، وبالرغم من كونه شيخاً طاعناً في السنّ، ومكفوف البصر، عجزوا عن الإمساك به لأنه كان يدور بسيفه يميناً وشمالاً يذبّ عن نفسه، وكانت الى جانبه ابنته ترشده الى جهة الاعداء المحيطين به، وهي تعبئ معنوياته وتبارك له موقفه.
هكذا ينقل لنا التاريخ عن هذا الشجاع، مما يستدعي التأمل بوجود وعي كهذا لدى شريحة من المجتمع الكوفي بحقيقة الأمور، بيد أن المشكلة في قلّة هذه الشريحة أمام السواد الأعظم الذي اشترى ابن زياد ذممهم وضمائر؛ ولكن يبقى سلاح الكلمة يهز عروش الظالمين، فيكون له الأثر في تغيير مسار الأحداث كما حصل بعد واقعة الطف.