إنّ أجمل ما في الإنسان هو الكلمة سواء كانت منطوقة أو مصورة أو مكتوبة، وهي الوسيلة الاتصالية الأولى التي عبر عن طريقها الإنسان عن حاجاته وأفكاره وتطلعاته من أجل تحقيق غاياته وأهدافه، وتأتي أهمية الاتصال في وضعه للغة الموضع المناسب الذي يمكنه من الاقناع ومن ثم التأثير في الاخرين، ومن كونها تتيح للفرد الذي يجيد اللغة الدخول في حركة المجتمع المحيط، بفاعلية كبيرة وتأثير واسع، كما أنها تمنح الفرد القدرة على القيادة وامتلاك الرؤية والمشروع، بينما يؤدي ضعف الاتصال ومهارات اللغة الى الفقر المعرفي وضعف الشخصية والتأثير.
و تعد الرسائل الاتصالية الصورة الأبرز التي يتواصل بها الناس، ويعتمد هذا الاتصال على جهود القائم بالاتصال ذاته في محاولة الابانة والوضوح في رسالته الاتصالية سواء كانت هذه الرسالة مكتوبة أو منطوقة، ويمثل الاقناع الهدف الاسمى للتواصل، فالمتكلم يروم من عرض رسالته التأثير في قناعات المخاطب ومن ثم تغيير سلوكه تبعا لعمليتي التأثير والاقناع .
وفي قراءة متأنية لتراث اهل البيت عليهم افضل الصلاة والسلام، اخترنا نماذج من اقوال الامام جعفر بن محمد الصادق عليهم السلام الواردة في كتاب ( تحف العقول عن ال الرسول ) للعلامة ( أبو محمد الحسن الحراني)، لبيان الاستمالات الإقناعية التي تم توظيفها في اقواله عليه السلام التي اسست لغايات إقناعية في مخاطبة الجمهور بنخبه وعامته .في فترة زمنية كانت معقدة سياسيا واجتماعيا واقتصاديا في حياة المسلمين عايشها الامام، عليه السلام، وكان بمستوى البلاغة اللغوية موظفاً في اقواله مجموعة من الاستمالات الاقناعية من أجل تدعيم قناعات المؤيدين وأحداث تغيير في قناعات المعارضين أو المخالفين .
إن الامام الصادق عليه السلام لم يكن رجل عبادة وعلم فقط، وإنما كان رجل عمل رسالي وتغيير شامل في الامة، وهذه وظيفة الانبياء والائمة وكل المصلحين التأريخيين، إذ لا يمكن حصر أنفسهم في نطاق ضيق من الثورة السياسية أو التغيير الثقافي و الاصلاح الاجتماعي، وإنما يجمعون الاهداف والمسؤوليات كلها ويوجهون الامة توجيهاً شاملاً.
[.. وظّف الامام الصادق عليه السلام الاستمالات الاقناعية العاطفية والعقلية واستمالات التخويف من أجل الاصلاح الديني والمجتمعي والثقافي والاقتصادي والتربوي، في ظل بيئة سياسية شهدت صراعات وأزمات وعلى كافة المستويات ..]
-
الاقناع في اللغة والاصطلاح
يدلنا البحث المعجمي العربي على أن (إقناع) مشتق من أقنع ، فبحسب أحمد بن فارس (ت 395هـ) يذكر : “أقنع له يقنع إقناعاً” ، والإقناع : “مد اليد عند الدعاء وسمي بذلك عند إقباله على الجهة التي يمد يده اليها” ، والإقناع هو: “إمالة الاناء للماء المنحدر”.
أن الدلالة المكشوفة من هذا النص هي تكثيف الجهد وتركيزه في سبيل تحقيق المراد، وهذه الدلالة تلتقي التقاءً مباشراً مع المفهوم الاصطلاحي الذي أن رمنا تعريفه لوجدناه بأنه: “حمل النفوس على فعل شيء أو اعتقاده أو التخلي عن فعل شيء واعتقاده”. كما عرفه صاحب مفاتيح العلوم بأنه: “أن يعقل السامع الشيء بقول، يصدق به وأن لم يكن ببرهان.
اما التعريفات الحديثة والمعاصرة لمصطلح الاقناع فلم تكن ببعيدة عما تم ذكره، فقد ورد تعريف الاقناع في معجم مصطلحات الاعلام انه: “حث الافراد على تقبل رأي أو فكرة معينة أو القيام بعمل معين”. وعرفه احد الباحثين بأنه: “مجموعة العناصر القادرة على خلق رد فعل معين مقصود لدى الجمهور المستقبل، وهذه العناصر تتضمن أنظمة إقناعيه تستتر خلف نظام تعبيري لغوي”.
ومن خلال هذين التعريفين نجد التقاء تحديدات القدماء والمحدثين برسم الإقناع بسمات خاصة هي :
1– أنه عملية قصدية من المتكلم موجهه الى السامع .
2– غاية المتكلم إحداث تغيير ما في المخاطب .
3– الإقناع لا يستلزم بالضرورة الاقتناع .
-
استمالات الاقناع في الرسالة
يرتبط محتوى الرسالة عادة بالقدرة على الاقناع، ويتحدث العلماء عن ثلاث استمالات إقناعية وهي الاستمالات العاطفية، والاستمالات العقلية ، والاستمالات التخويفية .
1– الاستمالات العاطفية: تستهدف الاستمالات العاطفية التأثير على وجدان المتلقي وانفعالاته ، واثاره حاجاته النفسية، ومخاطبة حواسه بما يحقق أهداف القائم بالاتصال، ومن أمثلة هذه الاستمالات:
أ– استخدام الأساليب اللغوية: وتكمن في التعبير بالأساليب اللغوية التي تساعد على تقريب المعاني لتجسيد فكرة ومضمون القائم بالاتصال، ومن هذه الاساليب :
– الامر: استعمال افعال بصيغة الامر ، فيذكر الامام الصادق عليه السلام في هذا الاطار بالقول: “اتق الله بعض التقى وأن قل، ودع بينك وبينه ستراً وان رق” .
– النهي: استعمال الفعل المضارع بصيغة النهي، فيذكر عليه السلام: “لا تشاور احمق، ولا تستعن بكذاب، ولا تثق بمودة ملوك”.
– المدح والذم: وهي استعمال كلمات التفضيل للمدح ، وكلمات أخرى معاكسة للذم، فمثال على ذلك قوله عليه السلام في مدح التودد للناس ومجاملتهم: “مجاملة الناس ثلث العقل”، وذم سوء الخلق: “من ساء خلقه عذّب نفسه.
– التحذير: اسلوب يراد به تنبيه المخاطب لتجنب مكروها، فمن وصاياه عليه السلام لابن جندب في التحذير من مصائد الشيطان الرجيم: “يا ابن جندب للشيطان مصائد يصطاد بها فتحاموا شباكه ومصائده”.
ب– إثارة العاطفة : وهو أسلوب يستخدمه القائم بالاتصال ( المخاطب) لاستمالة الجمهور، وكمثال على هذا الاسلوب قول الامام عليه السلام: “من سره ان يزوجه الله الحور العين ويتوجه بالنور فليدخل على أخيه المؤمن السرور”.
ج– دلالات الالفاظ: ويمكن استعمال كلمات لها دلالات عند الجمهور وتحمل الألفاظاً ذات شحنة عاطفية تؤدي إلى قبول أو رفض طرح أو فكرة ما ، وفي هذا الاطار يصف عليه السلام، الإسلام بقوله: “الاسلام عريان، فلباسه الحياء، وزينته الوقار ومروته العمل الصالح وعماده الورع، ولكل شيء اساس، وأساس الاسلام حبنا أهل البيت”.
2– الاستمالات العقلية: تعمل الاستمالات العقلية على مخاطبة العقل عن طريق تقديم الحجج والشواهد المنطقية وبعض الآراء المضادة بعد مناقشها وإظهار جوانبها المختلفة. إذ أن عملية طرح الادعاء والبراهين الخاصة به تستلزم وجود أسلوب عقلاني وذلك لأن العقل يؤدي دوراً منطقياً في إقناع المتلقي عن طريق إيجاد علاقة بين ما هو مقترح ويعتمد به كبرهان.
ومن أمثلة هذه الاستمالات :
1– الحجج والشواهد: فيورد الامام عليه السلام حول هذا الموضوع ثلاث شواهد يقول: “ثلاثة مركبة في بني أدم : الحسد والحرص والشهوة”، ووضع عليه السلام حجج للمؤمنين لا غنى عنهم بها في الحياة الدنيا، فقال: “فقيه عالم ورع، وأمير خير مطاع، وطبيب بصير ثقة”.
2– بناء النتائج على المقدمات: فالمقدمات الصحيحة تؤدي الى نتائج صحيحة والمقدمات الخاطئة تؤدي الى نتائج خاطئة، حيث نجد الامام عليه السلام يبين ذلك بقوله: “كل ذي صناعة مضطر الى ثلاث خلال يجتنب بها المكسب وهو : أن يكون حاذقاً بعمله، مؤدياً للأمانة فيه، مستميلاً لمن أستعمله”. وفي موضوع أخر يذكر عليه السلام حق الولد على والده فيقول: “وتجب للولد على والده ثلاث خصال: أختيار لوالدته، وتحسين أسمه، والمبالغة في تأديبه”.
3– استمالات التخويف: وتعمل استمالات التخويف على تنشيط الإثارة العاطفية لدى المتلقي إلى درجة معينة من التوتر العاطفي، مثل إثارة الخوف لدى الناس لتبرير عمل معين، أو تخويفهم من الأمراض كي يسرعوا إلى الطبيب في الوقت المناسب. وتتم استثارة العواطف حينما يفقد العقل أو المنطق دوره في السيطرة عليها، لأن الإنسان في بعض الظروف لا يستطيع أن يسيطر على عواطفه عن طريق تحكيم عقله، وحتى وأن استطاع ضبط مشاعر الغضب مثلا فأنه لا يستطيع التحكم بمشاعر الحزن أو الحب أو الكراهية.
[ .. الرسائل الاتصالية للإمام عليه السلام لم تكن موجهه نحو نوع واحد من المخاطَبين، بل أنه خطاب موجه الى الموافق والمخالف، ليدعم قناعة المؤيد ويحاول تغيير قناعة المعارض ..]
وفي هذا الاطار يبين الامام الصادق عليه السلام، خارطة طريق للإنسان لكي يتجنبها، فيقول: “ثلاث يجب على كل أنسان تجنبها: مقارنة الاشرار ومحادثة النساء ومجالسة أهل البدع”، وهو أسلوب تخويفي للبشر كي يتجنبوا مكامن الشر والمتمثلة في مصاحبة الاشرار والتحدث للمرأة الاجنبية، أما أهل البدع وما أكثرهم في زماننا هذا، وفي كل زمان فإن مجالستهم والاصغاء الى أفكارهم المنحرفة تؤدي دون شك الى تغييب العقل والمنطق وتغليب الجهل والفسوق والعصيان.
كما استُخدمت إستمالة التخويف في موضع أخر من درر الامام الصادق عليه السلام في التخويف من الخائن والخيانة، يقول عليه السلام: “من أئتمن خائناً على أمانة لم يكن له على الله ضامن” وفي حديث اخر يذكر عليه السلام : “ليس لك أن تؤمن الخائن وقد جربته، وليس لك أن تتهم من أئتمنت”، ويحرص الامام عليه السلام في التذكير بمخافة الله عز وجل باعتبارها السبيل الامثل لاجتياز الاختبار الدنيوي والعبور بنجاح الى النعيم الإخروي بقوله عليه السلام: “من عرف الله خافه ومن خاف الله سخت نفسه عن الدنيا”.
إن تتبع إلاستمالات الاقناعية في الرسائل الاتصالية للأمام الصادق عليه السلام، كشف لنا مجموعة من النتائج نوردها على النحو الأتي:
1– قدم الامام الصادق عليه السلام خطاباً واضحاً ناصحاً وواعظاً، لم يستلزم القوة القهرية ( العسكرية )، بل البلاغة اللغوية التعبيرية التي تذكر بدرر أقوال جده الاكرم نبينا محمد صلى الله عليه واله وسلم، والإمام علي عليه السلام، وأباءه الائمة الميامين عليهم السلام اجمعين .
2– أن الرسائل الاتصالية للإمام عليه السلام لم تكن موجهه نحو نوع واحد من المخاطَبين، بل أنه خطاب موجه الى الموافق والمخالف، ليدعم قناعة المؤيد ويحاول تغيير قناعة المعارض .
3– وظّف الامام الصادق عليه السلام الاستمالات الاقناعية العاطفية والعقلية واستمالات التخويف من أجل الاصلاح الديني والمجتمعي والثقافي والاقتصادي والتربوي، في ظل بيئة سياسية شهدت صراعات وأزمات وعلى كافة المستويات، كما شهدت فترة امامته عليه السلام دعايتين هما الدعاية الاموية والدعاية العباسية.
المصادر
1- أبو محمد الحسن الحراني ، تحف العقول عن أل الرسول ، تقديم : الشيخ حسين الأعلمي ،منشورات ذوي القربى ، 1424ه، الصفحات من 218 الى 280.
2- أية الله العظمى السيد محمد تقي المدرسي ، التأريخ الاسلامي (دروس وعبر) ، ط8 ، بيروت ، مركز العصر للثقافة والنشر ، 2014م ، ص 285.
3- أبو الحسن أحمد بن فارس بن زكريا (ت 395هـ) ، معجم مقاييس اللغة ، تحقيق عبد السلام محمد هارون ، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، بيروت، 2012م، 5/ 32.
4- حازم القرطاجاني (ت 684هـ) ، منهاج البلغاء وسراج الادباء ، تحقيق محمد الحبيب أبن الخوجة ، ص 20.
5- أبو يعقوب يوسف بن محمد بن علي السكاكي (ت 626هـ) ، مفتاح العلوم ، تحقيق الدكتور عبد الحميد هنداوي ، ص 177.
6- معجم مصطلحات الاعلام ، مجمع اللغة العربية ، القاهرة ، 2008م ، ص 67.
7- حميدة سميسم ، الحرب النفسية مدخل ، دار الكتاب للطباعة ، بغداد ، 2000م، ص 123.
8- أحمد حسين حيال ، استراتيجيات الاقناع في الخطاب الحسيني ، مجلة أداب المستنصرية ، العدد 76، 2016م، ص 155.
9- معتصم بابكر مصطفى، من اساليب الاقناع في القران الكريم، بلا دار نشر، الدوحة ، 2003م، ص 53.