حدثان منفصلان تفصل بينهما أعوام كثيرة، إلا أن تزامن ذكرى سقوط الموصل مع استقطاعات الحكومة من رواتب المتقاعدين لعله للدالة على أن الحدثين نتيجة لعلة واحدة.
فسقوط الموصل وما بعدها، لم يكن وليد الساعة، بل كان نتيجة تصدعات حقيقية في المؤسسة العسكرية، ففي الوقت الذي كان العراق يمرّ بمرحلة حرجة جداً، وكانت المناطق الشيعية لا تهدأ، فلم تكن تسمع إلا صوت المفخخات أو الثواكل الباكيات!
في هذا الوقت تحديداً كان البعض مشغول بالمناكفات، غير عابئ أبداً بما يحدث على الأرض بل ربما يتاجر بهذه القضية، وتلك من دون تفكير جاد في وضع حد لذلك. المؤسسة الأمنية كانت عرضة للبيع والشراء، فالمناصب الأمنية والعسكرية بل وحتى “السيطرات” كانت عبارة عن “مصارف” تباع سهامها لمن يدفع أكثر! كل ذلك والمؤامرات تحاك في دول مجاورة وبإشراف وتخطيط ممن خرج من الباب وأراد العود من النافذة، وكثير من الموتورين بالنظام الجديد في العراق، ولكن النتيجة أن كل ذلك لم يكن ليعني لهؤلاء شي، وهم يرون أن ملايين النفط تتدفق والدول كلها مشرعة لهم ليرتعوا بها ماداموا ينفقون من هذه الأموال بسخاء.
[.. سقوط الموصل وما بعدها، لم يكن وليد الساعة، بل كان نتيجة تصدعات حقيقية في المؤسسة العسكرية، ففي الوقت الذي كان العراق يمرّ بمرحلة حرجة جداً ..]
إنّ ذلك كان السبب الأساس في هشاشة الوضع الأمني الذي أدى لسقوط الموصل، هذا عن سقوط الموصف أما سقوط الرواتب والتقاعدات فالأمر مشابه تماماً.
الوضع الإقتصادي في العراق بدأ بالتصدع حين أصبح الكل يفكر “بالتعيين” لأن التعيين سيجلب له المال، الراحة، السمعة، فرص للإيفاد والسفر على حساب الدولة، بل وحتى “الزواج” فالبنت لا تقبل أن تتزوج غير الموظف، والموظفة أكثر مطلوبة من غيرها!!
والسياسي الذي يبحث عن الأصوات في الإنتخابات أيضاً لم يفكر في وضع حجر أساس لإقتصاد ينتفع فيه الجميع، ويكونوا فيه سواء، فصار يصوت بين الفينة والأخرى على قانون ينتفع به فئة من الناس أو يستلم على إثره مرتبات شهرية، أو يُعيَّن في جيش من البطالة المقنعة.
فصارت الحكومة مؤسسة منفصلة عن الشعب، كل همّها هؤلاء الذين أصبحوا عيالاً، رواتب، علاوات، ايفادات، دورات…، في المقابل ينمو جيل من الشباب الطامح من دون أن يرى أفقاً فهو يعيش حلم اللحاق بالملايين الخمس من المستفيدين ليحظى بدرجة وظيفية تؤمن له العيش برفاهية.
ولا ريب أن مع إزدياد هذه الفجوة كنا سنصل إلى هذه النقطة، فإن لم يكن ذلك اليوم كان الأمر سيحدث قريباً ولم يكن سقوط النفط وجائحة كورونا إلا فرصة للحكومة أن تقوم بمثل هذه الخطوة للتعذر بهما، وإلا فالحقيقة أن القضية ليست لها علاقة بسعر النفط، وإنما لها علاقة بإنسداد الأفق، فلم يكن بإمكان دولة مكبلة بشريك كردي يريد خمس الميزانية وقرابة ستة ملايين من الموظفين وثلاثة ملايين من المتقاعدين والمنتفعين بأسماء، الشهداء والسجناء، ورفحاء، والكيانات المنحلة، وضحايا حلبجة، والمفصولين السياسيين، وضحايا الارهاب …، لم يكن بإمكانه الإستمرار خصوصا وأمامها تحديات حقيقية في إعادة إعمار العراق إلا هذا الطريق، فالطريق الآخر وهو إسقاط سعر العملة أو رفع الضرائب على عامة الناس كان سيزيد من الإجاحاف الحاصل أساساً.
[.. الوضع الإقتصادي في العراق بدأ بالتصدع حين أصبح الكل يفكر “بالتعيين” لأن التعيين سيجلب له المال، الراحة، السمعة، فرص للإيفاد والسفر على حساب الدولة، بل وحتى “الزواج” فالبنت لا تقبل أن تتزوج غير الموظف، والموظفة أكثر مطلوبة من غيرها!! ..]
كل ما ذكرت ليس تبريراً للفساد المالي الموجود في السلطة، لكن هذا هو الوجه الآخر للفساد الذي لا يشعر به الناس، فحين ترى في مركز طبي سبعة وثلاثين طبيبا اسنان يعملون على جهازين فقط، ونتيجة عملهم في اليوم الواحد هو ستة مرضى كحد أقصى، وكلهم يقبض مرتبات حكومية في الوقت الذي تعاني منه المدارس من قلة الكادر التدريسي ويعمل فيها محاضرون بالمجان لأكثر من ثلاثة سنوات ستعرف أن حق هذا قد أعطي لآخر.
ففساد السلطة قد أصبح شماعة للتهرب من المسؤولية، فلماذا أصبح راتب الموظف خط أحمر؟ لماذا أصبح التقاعد الذي حصل عليه الشخص لوجوده ضمن أجهزة النظام السابق أو مخيمات رفحاء خط أحمر؟ بل حتى الشهداء والسجناء وغير ذلك، فلماذا كل ذلك خط أحمر، لماذا أصبح كل واحد منا لا يفكر إلا بنفسه.
كان الاجدر بالموظف الذي لم يعمل خلال ستة أشهر إلا أقل من ثلاثين يوم عمل أن يفكر في الآخرين، قبل أن يؤيد دعوات التظاهر! أما أن أدعي الإصلاح وأتكلم على الجميع ولست مستعداً للتنازل عن 10% مما أقبض مقابل “لا شيء” فهذا هو السفه بل والنفاق!
نحن أمام أزمة إقتصادية عالمية، وتباطئ في نمو الإقتصاد، وعلى الجميع أن يفكر في هذا الأمر بجدية أكثر، ليبنى في العراق نظام ضمان إجتماعي عادل يضمن للجميع الحد الأدنى من العيش ويعمل الجميع من أجل أن ينتفع الجميع، أما أن يفكر الموظف والمتقاعد بأن ما يقبضه “خط أحمر” فإن ذلك سيؤدي إلى ما لا يحمد عقباه.