الحقيقة العلمية في علم الاجتماع التي قد يتجاهلها علماء الحضارة اليوم؛ هي أن لله قوانين وسُننُ في هذه الحياة، فالله الخالق جعل للمجتمع البشري قواعد يقوم عليها، وقوانين ناظمة لحركتها في هذه الدنيا، وهي حاكمة ومهيمنة عليها شاءت أم أبت، ولكن الله سبحانه وتعالى الذي جعل قانون انتصار المستضعفين على الطغاة والمستكبرين في نهاية المطاف، جعل أيضاً من القوانين الحاكمة قانون الأسباب، فلقد جعل الله تعالى هذه الحياة يُسيِّرُها قانون الأسباب والمسببات، ولا يمكن فهم آلية هذه الحياة بمعزل عن قوانينها الحاكمة، والنافذة فيها منذ أن خلقها الله تعالى، ومن تلك القوانين الثابتة في الحضارة وبناء المَدَنِيَّة هو الأخذ بالأسباب، ينقل عن أمير المؤمنين عليه السلام، كلمة غاية في الجمال مع ما لها من الأهمية: “إنّ معايش الخلق خمسة: الإمارة، والعمارة، والتجارة، والإجارة، والصدقات… وأمّا وجه العمارة فقوله تعالى: {هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} (هود: 61)، فأعلمنا سبحانه أنّه قد أمرهم بالعَمَارة؛ ليكون ذلك سبباً لمعايشهم بما يَخرُجُ مِنَ الأرضِ؛ مِنْ الحَبِّ، والثَّمراتِ، وما شَاكل ذلك، ممّا جعله اللَّه معايش للخلق” (وسائل الشيعة: 13/195/10).
[.. الرسالات كلها، والنبوات، والكُتب المنزَّلة من السماء لأهل الأرض من أجل رفع أهل الأرض إلى مستوى السماء التي نزلوا منها ..]
فبناء حضارات الأرض تبدأ من الأرض فلا يمكن لحضارة أن تقوم بلا أرض تقوم عليها، وإنسان يعمل بجد ونشاط لتطبيق فكرة حضارية في الأرض، ولذا بدأت سورة العنكبوت المباركة تُعطينا الخطوط الأولية للحضارات البشرية، بعد أن رسمت لنا الحدود وبيَّنت القواعد، وأوضحت الأصول التي تقوم عليها الحضارة، وبُناةُ الحضارات هم من عباقرة البشر، الذين يحملون فكراً مميَّزاً، وهمَّةً عاليةً، ويسعون جُهدهم وجِهادهم لتطبيق الفكرةَ، وبناء الحضارة التي يتطلعون إليها.
والأمم والشعوب والدول مثل الإنسان – بحسب تحليل ابن خلدون وتعليله لبناء الحضارات – فهي محكومة بقانون الأسباب، ولذا أكَّد ربنا سبحانه كما في قصة ذي القرني القرآنية على أن يعمل ويجد ويُجاهد بقوله: {إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآَتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا فَأَتْبَعَ سَبَبًا}.(الكهف: 85)، والعجيب أن هذه الآية الكريمة الأخيرة تتكرر ثلاث مرات في السُّورة المباركة بعد أن يأمره الله سبحانه؛ أن يتَّبع ما آتاه من أسباب من كل شيء؛
– السبب الأول؛ كان إلى مغرب الشمس.
– السبب الثاني؛ كان إلى مشرق الشمس.
– السبب الثالث؛ أوصله إلى المفسدين في الأرض، فعَمِلَ جاهداً، وأعانه القوم جميعاً حتى بنى لهم ذلك السَّد المنيع ليحول بينهم وبين المفسدين في الأرض، ألا يُشير ذلك لنا بأنه من الضروري العمل الصالح ليكون مانعاً للفساد والمفسدين في هذه الحياة؟
قال تعالى: {حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا (93) قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا}. (الكهف: 94).
وألا يمكن الفهم من قصَّة ذي القرنين الذي ملك الأرض – كما في الروايات – على أنه مَنْ يطمح لمُلك الأرض عليه أن يجوبها من مشرقها، إلى مغربها باحثاً عن الفقراء والمساكين من المستضعفين، الذين لا يكادون يفقهون قولاً، ليُساعدهم، ويحميهم، ويبني لهم ما يَقيهم من الفساد والمفسدين في الأرض؟
فالحضارة تقوم لأجل هؤلاء البُسطاء، ليَنعموا بعيشٍ مقبولٍ في هذه الدنيا، فهم في محنة وامتحان، من هذا الجانب ليختبر الله إيمانهم، وصبرهم على البلاء، وهم الذين جعل حقوقهم في أموال وجيوب الأقوياء، والأغنياء، ليختبر الله إيمانهم، وصدقهم في الادِّعاء، ففرض الزكاة، والخمس، والصدقات، وكل العبادات المالية لتنظيم الحياة في المجتمع على أسس إنسانية عادلة، فهم أساس المجتمع الصالح، لأنهم الذين: {وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ}. (العصر: 3).
أليست هذه الفكرة الحضارية التي تُشير إليها سورة العنكبوت المباركة بقوَّة وتُعطينا منها أمثلة على العظماء فيها، والمفسدين الذين يحاولون أن يعمَّ الفساد وتشيع الفاحشة في عموم الأرض أيضاً؟
وقد تُشكل وتقول: لماذا اعتمدتَ سورة العنكبوت إذن، ولم تعتمد سورة الكهف الغنية بكنوزها، لا سيما هذه النظرة الشاملة للحضارة التي تُلخصها قصة ذو القرنين العبد الصالح الذي ملك الدنيا؟
لجوابك نقول: هذا صحيحاً ولكن في قصة الكهف جاءت بالجانب الإيجابي لمسالة بناء الحضارة وأما في سورة العنكبوت فكانت تتحدث عن كل الجوانب، من الأسس والأصول، وحتى البناء ثم الدَّمار والأفول، فهي تتناول الجوانب السلبية التي تُسبب دمار الحضارات بعد عمارها، ولذا تراها تناولت أسباب الدَّمار من أنواع الفساد والإفساد في الأرض، وهي السورة الوحيدة التي تُعطي الوصف الحقيقي لحضارة الأرض إذا انفصلت عن السماء وتصفها ب(بيت العنكبوت)، ويُسميها السيد المرجع محمد تقي المدرسي بالحضارة العنكبوتية.
[.. بناء حضارات الأرض تبدأ من الأرض فلا يمكن لحضارة أن تقوم بلا أرض تقوم عليها، وإنسان يعمل بجد ونشاط لتطبيق فكرة حضارية في الأرض ..]
فالرسالات كلها، والنبوات، والكُتب المنزَّلة من السماء لأهل الأرض من أجل رفع أهل الأرض إلى مستوى السماء التي نزلوا منها، فكلها ذات مضامين اجتماعية بكل معنى الكلمة، بل هي ثورات اجتماعية قام بها عظماء البشر، ليُنقذوا ضعفاءهم من الطغاة والجبارين، فهذه حقيقة واضحة كل الوضوح في كل الرسالات السماوية.
يقول سماحة السيد المرجع المدرسي: “لقد خُلِقَ الإنسان حضاريًّا يتطلَّع إلى آفاق أبعد من إشباع الحاجات الضرورية كما في سائر الأحياء وقد اكتشف أن تحقيق تطلعه البعيد لا يمكن من دون تشكيل مجتمع يسوده التعاون.. ونبعت المشكلة (الاجتماعية) من هنا، فما هو المجتمع المتعاون؟
ليس من شك في أن الظلم عقبة تعترض طريق التعاون، ولكن كيف يمكن القضاء على الظلم الاجتماعي وكيف يحل العدل مكانه؟ للإجابة عن هذا السؤال كان لا بدَّ أن يُحدَّد بدقَّة: ما هو الظلم؟ بل ما هو العدل؟
فجاء الجواب: العدل إعطاء الحقوق وافيةً؛ ولكن استمر الغموض أيضًا، وجاء سؤال آخر: ما هي الحقوق وكيف يُمكن الوفاء بها؟ ما هو حق الفرد على المجتمع؟ وما هو حق المجتمع على الفرد؟ وبأي الحقين نُضحِّي لدى تعارضهما؟ وما هي الدولة الصالحة التي تقوم بأداء الحقوق؟
وكان من الطبيعي أن يتَّصل الموضوع مباشرة بمعرفة واقع الحق ثم بمعرفة واقع صاحب الحق؛ فمَنْ هو الإنسان؟ ما هي حقيقته؟ ما هي حاجاته؟ ما هي حقوقه؟ وما هو المجتمع؟ ما هي حقيقته، فحاجاته، فحقوقه؟
والنظرية الفكرية التي تُجيب عن هذه الأسئلة بدليل علمي أو فلسفي تُسمَّى ب (الفلسفة الاجتماعية)، أو (الفلسفة العملية)، أما الإجابات الجانبية التي تقوم على أساسها فإنها تسمى ب (النظام الاجتماعي) وجملة المسائل الغامضة التي تُشكِّل مواضيع هذه الإجابات هي المشكلة الاجتماعية؛ إذً:
1 – الفلسفة العملية؛ هي نظريات حول حقيقة الإنسان والمجتمع.
2 – النظام الاجتماعي؛ هي الأحكام الواضحة التي تُستنبط من تلك النظرية.
3 – المشكلة الاجتماعية؛ هي البحث عن إجابة صحيحة لهذا السؤال: كيف يُمكن أن يصنع الإنسان حضارته؟” (الفكر الإسلامي مواجهة حضارية؛ ص295 بتصرف).
وعليه فلدينا نوعين من الحضارات كما أشار سماحة السيد هادي المدرسي في كتابه (أصول الحضارة)، ولكن سنُغيِّر بالاسم فقط لتكون منطلقاتنا، ومصطلحاتنا قرآنية بامتياز، فهي الأقرب إلى الحقيقة والواقع دائماً وأبداً، وهما:
1– حضارة قِيَمية سماوية راقية؛ وهي (حضارة إنسانية حقيقية).
2– حضارة مادية أرضية عالية؛ وهي (حضارة مادية عنكبوتية).
وسماحة السيد المرجع المدرسي (حفظه الله) يطرح سؤالاً يُريدنا أن نتفكَّر به، يقول: “لماذا جاءت الرسالات الإلهية؟ وماهي أهدافها الحقيقية”؟
سؤلان خالدان خلود الرِّسالات، وهامان أهميتها، وخطيران بالنسبة إلى حياة البشرية خصوصاً في هذا العصر، حيث طغت المادية وأخذت تُهدِّد العالم كله بالفناء، في الوقت الذي أخذت البشرية تتطلع إلى الخلاص بصورة أكثر جديَّة، لأنه بقدر عظمة، وخطورة المشاكل التي تحيط بها، وسيكون مدى تطلعها نحو الخلاص منها.
فالأخطار المحدقة بالبشرية كبيرة جداً، سواء تلك التي تتجسد في الحروب، (لاسيما في الجيلين الرابع والخامس منها)، أو الاستغلال والاستبعاد، أو في الرُّعب النووي الذي يُخيِّم على البشرية جميعاً، وهذا ما يدفع البشرية للبحث عن الخلاص أكثر فأكثر.
ثم يقول سماحته جازماً أن: “الخلاص في رسالات الله؛ لأن الرسالات الإلهية التي يجب أن تُفهم من جديد وليس أن نجعلها جزءاً من واقعنا المختلف (المتخلف)، ونفسِّرُها حسب أفكارنا التبريرية، ونظراتنا التقليدية لها، وهذا هو الطريق الأوحد لخلاص البشرية مما يُحدق بها من مشاكل وأخطار.. ذلك أن الرسالات الإلهية والتي تتجسَّد اليوم برسالة الإسلام، قادرة على أن تخلق الواقع السَّليم في بعدين: في ذات الإنسان (كفرد)، والثاني في كيان الإنسان (كمجتمع)”.(المجتمع الإسلامي، ص: 10).
فالمجتمع البشري الآن في أزمات كُبرى، وحقيقية، كشفتها الظروف الاستثنائية التي نعيشها الآن في ظل هذه الجائحة العالمية، فأبرزت خللاً واضحاً في كل المنظومة القيمية، والأخلاقية، وحتى الإدارية، والسياسية، والاقتصادية، والاجتماعية بدرجة أولى لأن المجتمع بما هو مجتمع مكوَّن من أفراد، وأُسر، وشعوب؛ وهم أصحاب المصلحة في الإصلاح الذي ترسمه آيات القرآن الحكيم، وتُبيِّن ملامحه سورة العنكبوت المباركة.