الوحدة.. من الشعار والنظرية الى أرض الواقع
|
*أنور عزّالدين
الشعب أو الامة التي تبحث عن مخرج من حالة التشتت والتمزق لن تتوجه الى الشعارات والنظريات والامنيات التي لا تلامس الواقع، فهي تبحث عن عوامل الوحدة والتماسك التي تجد فيها حياتها ومستقبلها، وهذا ما لايحتمل الانتظار والتسويف. ومن اجل تحقيق هذا الطموح الكبير نطلّ على محورين أساس من شأنهما ان يساعدان على لمّ الشمل واستعادة القوى ثم الانطلاق نحو مراتب التطور والتكامل.
النظرة الواقعية
اننا لانستطيع ان نأمل تحقيق انجاز ما بالاحلام والتمنيات؛ بل من خلال العمل الجاد على الصعيد الفردي والجماعي، وعلى الصعيد المادي والمعنوي، أي اننا مدعوون دائماً لمراجعة حساباتنا مع انفسنا ومع الآخرين، كما نقوم بمراجعة قدراتنا وامكاناتنا المادية، وهذا ما يعطينا زخماً اضافياً لمواجهة التحديات.
وهناك فرق بين من يرجو شيئاً بالاحلام، وبين من يأمل التغيير والاصلاح باعتماد الحقائق على الارض، وتوفير العوامل المؤدية الى تحقيق اهدافه، وهذا الفرق يكمن في الإعداد، فمن ينتظر ساعة المواجهة دون استعداد وتهيؤ لاينفعه انتظاره هذا، ولا يزيده أمله إلاّ خساراً ؛ في حين ان الذي يعمل على إعداد نفسه، ويطبق قوله عز وجل: "وَأَعِدُّوا لَهُم مَااسْتَطَعْتُم مِن قُوَّةٍ وَمِن رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ" (الانفال/60)، فانه يسعى من اجل تكثيف قدراته و رفع مستوى امكانياته، وتربية ذاته، وتزكية نفسه، وتوجيه وتنظيم طاقاته، وخطوات اخرى من هذا القبيل ليكون بمستوى التحدي والمواجهة، وهو لايجهل ان الذي أمامه لن يقف مكتوف الايدي متفرجاً.
وثمة حقيقة تتفرع من هذه النقطة؛ ان حالة الانحراف التي نحن بصدد اصلاحها تتعلق بالنفوس الانسانية، فهي عميقة الجذور، ولا تعالج بكلمة واحدة او محاضرة او احتجاج او غير ذلك، إنما بعمل متكامل ونظرة شمولية غير منقوصة حتى يكون التغيير والاصلاح جذرياً كما هو الانحراف والفساد الضارب في عمق المجتمع والدولة.
الفهم العميق للقـرآن
ان الفهم العميق للقرآن الكريم، بات ضرورة حضارية وثقافية في مشروع التغيير الشامل، خصوصاً وان آيات القرآن الكريم يفسر بعضها بعضاً، وكل مجموعة من هذه الآيات تأتي في سياق واحد؛ ولذلك يجب ان تؤخذ كبرنامج متكامل للعمل، لا كوصايا متناثرة لاتربط بينها علاقة المنهجية، لنأخذ مثالاً من كتابنا المجيد ونرى النتيجة: "يَآ أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِن تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ اُوتُواْ الْكِتَابَ يَرُدُّوكُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ * وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ ءَايَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَن يَعْتَصِم بِاللّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * يَآ أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُم مُسْلِمُونَ * وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْـدَآءً فَاَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَاَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَاَنْقَذَكُم مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ ءَايَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ * وَلْتَكُن مِنكُمْ أمة يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ" (آل عمران/100-104).
عندما نجمع هذه الآيات الكريمة الى بعضها، ونتدبر فيها، نستطيع ان نستوحي منها فكرة منهجية متكاملة قابلة للتطبيق وهي فكرة (الوحدة على نطاق الأمة الاسلامية)، كما يوحي بذلك قوله تعالى: "وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُوا)، فهذه الآية ليست ناشزة في السياق، بل ترتبط بما بعدها ارتباطاً وثيقاً، ولذلك فان علينا ان ندرسها جميعاً ككتلة واحدة.
ومن نافلة القول في هذا السياق، اننا نشكو في كثير من اوساطنا التبعيض في الدين، واستخراج المفاهيم من الكتاب والسنة ا لشريفة بصورة مجزأة، وربما تكون بعض النوايا سليمة ومن باب التوصل الى حلول للمشاكل أو اجابة لاستفهامات، لكن بالمحصلة النهائية يقودنا هذا الطريق الى ان نفتقد المنهجية المتكاملة التي أودعها الله تعالى في كتابه المجيد. وهذا ما حذرنا منه في الآية الكريمة: " أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاء مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ" (البقرة /85).
استحقاقات لابد منها
1- ان البحر الواسع لم يكن لولا القطرات الصغار للماء سواءً من الغيث النازل او من الانهار والروافد، إذن، لا يجب ان نستصغر القدرات والامكانات في المجتمع، فجميعها مهم وذو تاثير، فلابد من تكثيف هذه القدرات والامكانات والمهارات في المجالات كافة لتكون لدينا جبهة متراصة متكاملة غير قابلة للاختراق. وبما ان المسألة تتعلق بتجميع القوى وصبّها في رافد واحد، فمعنى هذا اننا مطالبون بمزيد من الصبر والتجلّد لا استعجال النتائج والتسرع لاستحصال المكاسب لان هذه النزعة ربما توقعنا في المحذور وتؤدي بنا الى الفشل والهزيمة.
واذا لاحظنا الساحة الاسلامية اليوم نجد انها تشكو التمزق والتشتت، لكن اين السبب والخلل؟ معظمنا يجهل الجواب لان كل واحد منّا يدور في دوامة نفسه لا عليه بالآخرين، حتى وان وجد من هو احسن منه او وجد هنالك مبدعا او مبتكرا في أي مجال كان، ومن أي شريحة كانت، ربما يكون المبدع في قرية نائية او في مدرسة او ورشة عمل او جامعة او حوزة علمية أو اي مكان آخر. يجب ان نلغي صفة التجاهل من سلوكنا ونعمل على جمع لبنات البناء الاسلامي العظيم، فهو لا يقوم الى باجزاء صغيرة.
2- طرد الافكار الدخيلة.
من غير المعقول ان يتوحد ابناء الدين الواحد وابناء الشعب الواحد من خلال طروحات وافكار غريبة عن واقعهم وعن جذورهم، لسبب بسيط؛ ان هذه الافكار ايضاً لها مفاهيم ومتطلبات واستحقاقات فان كانت لها دعوات للوحدة، فانها تعرضها بالشكل الذي يناسبها، مثال ذلك نظرية (العولمة) التي طرحها المفكرون الغربيون خلال عقدالتسعينات من القرن الماضي لتكون البوصلة لشعوبنا بان تتعلم كيف تندمج مع الآخرين وتتجاوز انتماءاتها وعقائدها وتراثها. طبعاً هذه النظرية نالت ما تستحق من الاستهجان والاحتجاج من لدن الشعوب الغربية نفسها التي وجدت انها مهددة في ثقافتها وتاريخها من خلال فكرة الاندماج الذي بدأ اقتصادياً ومضى سياسياً وحتى اجتماعياً وبالنهاية ثقافياً. فخرجت التظاهرات في الشوارع خلال الاجتماعات الرسمية لقادة الدول الذين يبحثون في هذا الشأن، بينما الاسلام يحترم خصوصيات الانسان وقناعاته وتاريخه، ففي الدولة الاسلامية يبقى المسيحي او اليهودي او الحضري او البدوي وغيرهم كلٌ على شاكلته في اطار نظام واحد يضمن حقوق الجميع.
3- النبوة والامامة.
لا تتحقق الوحدة إلاّ بايجاد قيمتين متفاعلتين في الأمة: قيمة الرسالة، وقيمة الرسول. فالرسول او الامام هو الذي يجسد المنهج، ويكون مثلاً حياً له، وهو ولي الامر، ولذلك يقول سبحانه وتعالى: "وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ ءَايَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ". فهذان هما الثقلان اللذان أوصى بهما النبي صلى الله عليه وآله في اللحظات الاخيرة من حياته الشريفة قائلاً : (إني تارك فيكم الثقلين ما ان تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي كتاب الله وعترتي أهل بيتي).
ان الله عز وجل هو الذي انزل الآيات وبعث الرسول؛ فهو بالتالي المحور الذي يلتف حوله، وعندما يذكرنا القرآن بضرورة الاعتصام بحبل الله فان هذا يعني التمسك بكتاب الله، واتباع رسوله.
4- الاستقامة والثبات.
اذا افتقدنا الاستقامة والثبات على المبدأ لن نستطيع ان نبني كياناً مستقلاً موحداً؛ كما ان الآخرين سوف لايعود بامكانهم ان يعتمدوا علينا، لاننا في هذه الحالة سنتحول الى اشخاص مهزوزين. فخلال لحظة واحدة ربما ننقلب على اعقابنا، وهذا ما يهدد الوحدة الاسلامية. ولذلك نرى ان السياق القرآني الكريم يذكرنا عند حديثه عن الوحدة بهذه الحقيقة فيقول: "يَآ أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُم مُسْلِمُونَ". فالاستقامة هي التي تجعل عاقبة الانسان على خير، وهي التي تجعله لايخشى الموت، كما يقول الامام علي (عليه السلام): (والله ما يبالي ابن أبي طالب أوَقَع على الموت، أم وقع الموت عليه). هكذا يمكننا ان نثبت جدارتنا امام العالم باننا حقاً أناس قادرون على التغيير والاصلاح.
5- التجمعات والتنظيمات.
لو نظرنا الى احد اسرار تقدم الغرب في كافة المستويات، نجد ذلك يكمن في وجود المؤسسات والهيئات وبشكل عام، العمل الجماعي والمؤسسي، بينما الذي نخر في جدار الوحدة في الساحة الاسلامية هو التفرد في العمل وفي الرأي. صحيح هناك مشاهير وأثرياء وعلماء في الغرب كلٌ يحمل نجمه عالياً يبختر به، وهي قضية طبيعية، لكن نجدهم في نفس الوقت يجتمعون في مناسبة معينة لاغاثة منطقة منكوبة او انقاذ افراد مصابين بامراض فتاكة او يتكفلون بايتام وغير ذلك، وعندما تدور حولهم عدسات الكاميرا يكونون كتلة واحدة داخل صالة، ولن يكون هنالك الاسخى والأكرم، انما تحقيق الهدف النهائي وهو المساعدة...
لسنا فقراء في الافكار والنظريات في هذا الجانب، لكن مشكلتنا النسيان! فهذا أمير المؤمنين عليه السلام يوصينا وهو طريح الفراش ضمن سلسلة وصاياه العظيمة: (الله الله في نظم أمركم...)، الامام لا ينسى هذا العامل المهم والاساس في بناء المجتمع والدولة، كما يوصينا ايضاً بالقرآن والصلاة وغيرها كثير.
والمثير اننا نملك الكثير من الفرص الذهبية القائمة لتكريس ثقافة العمل المؤسساتي، في مقدمتها أجواء احياء ذكرى سيد الشهداء الامام الحسين عليه السلام، فنحن نجد الهيئات الحسينية تتشكل من شباب واعي ورجال اشداء متفانين لهم لكن المشكلة ان هؤلاء يدورون في اطار ضيق من العمل لاحياء ذكرى واقعة الطف، بينما يمكن ان تكون الحسينية او الهيئة وغيرها منطلقاً للعمل الجماعي المنظم نحو الاصلاح والتغيير.
كل ذلك وغيره لا يجب ان ينحصر في اطار النظريات والكلام العابر، لأن ربما يقال مثل هذا الكلام كثيراً، لكن من يطلب الوحدة حقاً واستعادة الامة قوتها وعزتها عليه ان يستوفي هذه الاستحقاقات على الارض. طبعاً العملية شاقة وليست سهلة، لكنها مضمونة النجاح بدليل نجاح الامم والشعوب التي سبقتنا في النجاح والتطور.
|
|