قسم: الاول | قبل بعد | الاخير | عناوين اقسام | عناوين جميع اقسام

البشرية وحلم الدولة العادلة
لمشاهدة الصورة لحجم اكبر إضغط علي الصورة *يونس الموسوي
حلمٌ راود اهل الفكر والعباقرة على مر التاريخ، وهو تحقيق دولة العدل، فهؤلاء بذلوا عصارة فكرهم من أجل التنظير لهذه الدولة وصرفوا أحلى سنين عمرهم في سبيل إقامة الصرح النظري لها، وغيرهم بذل نفسه وماله في سبيل تحقيقها وأرخصوا دماءهم من أجل الحق والعدل والحرية، ووقعت الثورات وسقطت الملكيات وانهارت القوى العظمى ومازال حلم الدولة العادلة غير متحقق.
عندما تبحث في حياة العباقرة والمفكرين على طول التاريخ ستجد أن هذه القضية شغلت حيزاً كبيراً من تفكيرهم ومن تنظيراتهم وكتبوا فيها الكثير غير أن النتائج على أرض الواقع لم تكن مقنعة لأنهم لم ينظروا بالعين تحقق الدولة العادلة بالذهن.
وبخلاف ذلك كانت تنشأ في عصورهم دول متجبرة تحكم الناس بالحديد والنار وتنزع إلى الحروب وسفك الدماء وعلى أثر ذلك كان ملايين البشر يفقدون حياتهم ويصبحون أسرى ميول وأهواء الحكام المتجبرين الذين ما كان لهم هم سوى تكبير رقعة بلادهم على حساب الدول الضعيفة.
وكان هناك عامل مهم يتدخل في تنقية وتصفية الحياة الإنسانية من الحقد والكراهية وهو عامل الدين، فكان الله سبحانه وتعالى يبعث الرسل والأنبياء ليطهروا النفوس البشرية من أنواع الكراهية التي كانت تصيبهم نتيجة ظلم الإنسان للإنسان. وكانت تلك الأديان السماوية تخلق أمواجاً من الروحانية والصفاء في الحياة البشرية، وتترك تأثيرات أخرى على مستوى الدول والسلطات السياسية، فكانت تنشأ على أثر ذلك المزيج الروحاني - الديني والعقل البشري نوعاً من السلطات التي تحاول تحقيق العدل والمساواة بين أبناء البشر.
غير أن هذه الحكومات كانت محدودة في إطار الزمن، وهي بالتالي تخضع لقانون بشري أشمل هو (التكامل البشري)، فتلك الرسالات والحكومات التي نشأت تحت ظلها كانت في الواقع تساهم في تحقيق التكامل البشري وهذه هي الغاية العليا لكل الأفكار والقيم النبيلة. لأن هناك حقيقة في غاية الأهمية وهي: أن الرسالات السماوية وحدها لاتستطيع أن تبني حياةً متكاملة من دون المشاركة الإنسانية، فلا يكفي أن تكون الرسالة كاملة حتى تظهر مزاياها الحضارية على مستوى الواقع، بل هي بحاجة إلى الفعل الإنساني حتى يتكامل الظهور.
وعند تدخل العامل البشري في تطبيق تلك الرسالة تحدث الإشكالات الكبرى وتقع الإنحرافات، ويبدء المفسرون والمؤولون بتفسير النصوص الدينية بحسب ما تراه عقولهم لاحسب ما أراده الله، وعند ذلك يحدث التناقض وتضيع القيم الحقيقية لحساب القيم المزيفة.
وهذه هي المشكلة الكبرى التي تعاني منها الإنسانية على طول التاريخ، لأن هناك دائماً سؤالاً يلح على الأذهان وهو لماذا الفشل في تحقيق الحياة العادلة للبشر؟
الجواب؛ أن الفشل لاينبع من الرسالة ذاتها وإنما من عجز الإنسان عن تطبيق الرسالة بحذافيرها، وهذا العجز ليس بالضرورة ناتج عن عدم فهم القيم الرسالية وإنما هو حصيلة النوازع النفسية التي تجر الإنسان إلى طريق غير طريق الهدى والإيمان.
فالمشرّع للقوانين المدنية يستطيع أن يتلاعب بالقيم ويحوّل أهواءه الشخصية إلى قيم وتشريعات سماوية من خلال التضليل والخداع، فالحاكم الذي استولى على السلطة دون وجه حق مضطر لأن يخترع وسائل تديم سلطانه، وأن تكون هذه الوسائل مقبولة لدى العامة، فهو في ظل مجتمع إسلامي عليه أن يخترع أحاديث تبرر استيلاءه على الحكم، وكلما ازدادت الأهواء الشخصية في حكم الدولة الدينية كلما زاد الانحراف الديني في المجتمع، وشيئاً فشيئاً يصبح الدين كما في العهد الوسيط آداةً بيد القساوسة والحاخامات، يحرمون شيئاً ويحللون آخراً حسب ما تقتضيه أهواؤهم وشهواتهم، إذن، ماذا سيبقى من الدين؟ وكيف ستحكم الدولة الدينية العادلة؟
عملية التشويه التي تتعرض لها رسالات السماء والتحريف والتزوير وغير ذلك كلها تساهم في تحجيم دور الدين في إقامة الحكومة العادلة، وذلك أن ما بيد الناس هي قيم ومبادئ محرفة ومزورة وهم سيعجزون عن تطبيق العدالة حتى وإن أرادوا ذلك بسبب الثقافة المزورة التي تحكم عقيدتهم.
وهناك عامل وحيد يمكن أن يحل هذه الإشكالية وهو: وجود المعصوم المسدد من قبل الله عز وجل، فهذا المعصوم كان يمثل دوره الأنبياء عليهم السلام في العهود السابقة، أما في زمن الاسلام فإن الذي يمثل دور النبي هو المعصوم من آل بيته عليهم صلوات الله.
من هنا تكمن ضرورة وجود المعصوم او ظله في نظام الحكم، كونه الفاروق الذي يفصل بين الحق والباطل، بين الحقيقة والزيف، فهو الذي يستطيع أن يقول على سبيل الجزم أن هذا حلال وهذا حرام وأن هذا سبيل الهداية وذاك سبيل الغواية، أو بمعنى آخر هو الوحيد الذي يستطيع تطبيق العدل على سبيل اليقين وليس الظن. لأنه بعد اختلاط الحلال بالحرام والحق بالباطل تحول الناس من اليقين إلى الظن، وهذا هو حالهم اليوم من ناحية ضعف الإيمان والعقيدة، وأن الشخص الوحيد الذي يستطيع أن يعيد اليقين إلى الأمة هو المعصوم الذي لاشك في صوابية رأيه ومعتقده.
أن دولة العدل كانت حلم وطموح العباقرة والمفكرين والشعوب على طول التاريخ، لكننا هنا نقول بأن الرغبة والطموح وحتى السعي وحدها غير كافية لتحقيق العدل في الحياة، إنما نحن بحاجة إلى المعصوم الذي يعرف العدل حق معرفته ويطبقه بأفضل صورة ممكنة. فكل الناس لديهم تصورات مختلفة عن العدل لكنها جميعاً هي ظنية وغير محسومة وغير كاملة، بينما يأتي المعصوم ويحسم الأمر ويقول هذا هو العدل الكامل بعينه.
صحيح ان هذه النظرية تظهر عجز البشرية عن تحقيق العدالة الكاملة في الحياة، وهي التي تمهد لظهور المعصوم المنقذ الذي سيملأ الأرض قسطاً وعدلاً بعدما ملئت ظلماً وجوراً، وفلسفة ظهور المنقذ في آخر الزمان تبين هذه الحقيقة وهي: أن البشرية عاجزة عن تحقيق دولة العدل الكاملة إلا بالمساندة الإلهية.
وأما بالنسبة إلينا نحن الذين نعيش في عصر الغيبة، فعلينا أن نعمل جاهدين لتحقيق مايمكن من دولة العدل، وواجبنا أن نبذل قصارى جهدنا لتحقيق هذا العدل، لأنه في زمن الظهور يتم العدل على يد المعصوم بنسبة 100% بينما نحن يجب أن نعمل على تحقيق ما يمكن تحقيقه وأن نهيء الارضية بجهادنا وعملنا الرسالي لظهور المصلح الأكبر، وتحقيق دولة العدالة الإسلامية المتكاملة.