شهر رمضان المبارك. . فرصة لمحض الانتماء الى الله تعالى
|
إعداد / بشير عباس
بسم الله الرحمن الرحيم
"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * أَيَّاماً مَّعْدُودَاتٍ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وبينات مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ ". (البقرة/ 183-186).
شهر رمضان الكريم؛ شهر تميز عن بقية الشهور بانه يعد فسحة زمنية ليزكي فيها الانسان نفسه، ويحسن إلى الاخرين، هذا من جانب ومن جانب آخر يوثق العلاقة المباشرة مع الله العلي العظيم عبر القرآن الكريم الذي هو الحبل الممدود بين الخالق والمخلوق كما ان هذا الشهر المبارك يتميز بكثرة او اكثار الدعاء الذي هو أدب الحديث مع الرب الغفور.
ان جميع هذه المفردات المتقدمة الذكر تعود إلى حقيقة واحدة، وهي حقيقة التواصل مع الله سبحانه وتعالى والانقطاع اليه ومعرفته والتقرب منه، وأنس الإنسان به بحيث لا يكون من الغافلين، وقد تجسدت هذه الحقيقة الروحانية في نص المناجاة الشعبانية، وهي من جملة الاعمال التي ينبغي ممارستها لتمهيد الدخول في شهر رمضان المبارك، حيث جاء فيها: (ربنا هب لي كمال الانقطاع اليك، وأنر ابصار قلوبنا بضياء نظرها اليك حتى تخرق ابصار القلوب حجب النور، فتصل إلى معدن العظمة وتصير ارواحنا معلقة بعز قدسك...). فحينما يصل المرء إلى الله حيث ينقطع اليه يحس بأن كل ما سوى الله قد كان حجابا وهباء وضلالاً، وقد أكد الإمام الحسين عليه السلام هذه الحقيقة حيث قال في دعاء عرفة: (ما الذي فقد من وجدك، وما الذي وجد من فقدك...)؟
هدف الصيام الاول
ان اداء فريضة الصيام على نهجها الصحيح، او ممارسة عملية الاحسان بصورة مكثفة او القيام والسجود والركوع كل ذلك يعدّ اهدافا مرحلية لهدف اسمى وأعلى وهو اقامة العلاقة المباشرة مع الله عبر الاختلاء به ولو لدقيقة واحدة فقط، وعبر قراءة واستيعاب المناجاة المخصوصة لهذا الغرض مثل دعاء ليلة عرفة والذي من المستحب قراءته في كل ليلة جمعة حيث يبدأ بهذا المقطع: (يا شاهد كل نجوى وموضع كل شكوى) ثم يليه هذا النص، العظيم القائل: (وبحق تلك المناجاة التي كانت بينك وبين موسى بن عمران في طور سيناء) اذ فيها اشارة إلى حقيقة وعظمة تلك المناجاة، لأنه حينما قال رب العزة (وناديناه من جانب الطور الايمن وقربناه نجيا)، فإنما يقصد وصول موسى وتقدمه حتى اصبح نجيا لله، بمعنى انه اصبح قريبا من غير حاجة إلى الصراخ او الصياح وان وجوده قد امتلأ ايماناً وتسليما بعظمة وهيمنة الخالق على الوجود كله.
كيف نناجي ربنا في شهر رمضان؟
قبل كل شيء ينبغي تشخيص ومعرفة الحجب التي تفصلنا عن ربنا سبحانه وتعالى، ثم بعد ذلك نبدأ بمحاربة وإزاحة تلكم الحجب وتمزيقها، حتى نصل إلى معدن العظمة وتصير ارواحنا معلقة بقدس الله.
فمن لا يعرف الشرك لا يعرف التوحيد، ومن لا يطهر قلبه من الشرك، لن يتمكن من اعمار قلبه بالإيمان، وهذه الحقيقة الدينية مصداق قوله تبارك وتعالى بالنسبة إلى استيعاب بصائر كتابه المجيد وهو: "لا يمسه إلا المطهرون" فنور المعرفة بالله ونور التسلم اليه لا يدخل قلوب الذين لم يطهروا انفسهم بمعرفة الشرك وجحده، ولا يدخل ايضا قلوب من يعرفوا الطغيان والظلم فلا ينتصروا عليهما، اما الحجب التي تفصل الانسان عن ربه؛ فهي كثيرة جداً نذكر ابرزها:
أولاً: حجاب الأنانية..
ان طبيعة وسيرة الانسان الاناني انه لا يفكر إلا بنفسه طيلة لحظات حياته حتى انه ينظر إلى كل شيء بما في ذلك حقيقة الله تعالى وحقيقة التوحيد والعدل، فينظر اليها من منطلق الـ (انا) والذات فهو يأكل ويشرب ويعمل ويتزوج ويبحث عن الشهرة من خندق الذات ولا يكلف نفسه عناء الخروج من خندقه هذا، او يكلفها عناء النظر إلى الخنادق الاخرى.
ولما كان الاناني المتمحور حول ذاته يتدرج في انانيته تراه فجأة، ومن دون سابق انذار يدعي الالوهية، سواء اعلن ذلك ام اخفاه، وقد انكر الله هذه السيرة الشيطانية بقوله العزيز: "أَرَءَيتَ مَنِ اتّخَذَ إلَهَهُ هَوَاهُ" (الفرقان /23) فكله هو، ودينه هو، ودنياه هو، وآخرته هو، على النقيض تماما من موقف الامام زين العابدين عليه السلام حيث كان يناجي ربه بقوله: (يا اخرتي ودنياي)، وهو مؤمن مطلق الايمان بما يقول، اذ انه كان قد خرق حجاب الذات بعلمه و ورعه وطول عبادته.
أما انت أيها المؤمن فإنك تتمكن من الوصول إلى الله عز وجل في لحظة واحدة، او هو اقرب وأسرع من ذلك، ولكن يجب عليك ان تعلم بأن وسيلتك إلى ذلك هي تجاوز هوى النفس، فأسع كل سعيك واحجم عن قول: (انا)، إنما قل: (الله) ثم (الله) وحسب، ولعلنا نجد من يسجد في صلاته فيقول: (سبحان ربي الاعلى وبحمده) ولكنه يسبح نفسه ويقدسها ويعبدها اذا ما اصطدم بأحقر شيء او حالة يمكن ان تلحق الضرر بمصالحه الخاصة!
هذه الصفة المذمومة تجلب لصاحبها الجهل وعدم المعرفة الصحيحة بالخالق جلّ وعلا، بل وبكل شيء في الحياة، فاغلب الناس يحلفون بالله، ولكنهم لا يعرفون من هو الله تعالى! بل انهم لا يكلفون انفسهم عناء التفكير في خلق الله، فهل فكّر الحالف بالله في عظمة وقدرة ربه في ابداعه وتصويره على الأقل؟ وليعلم ان هذا الخالق قد ابتدع ما يزيد على خمسمائة مليون مجرة، حسب ما اكتشفته مراكز الرصد الفلكي رغم بساطة امكانياتها، وان كل مجرة من هذه المجرات تضم مئات الملايين من الشموس. فما اتفه المرء حينما يعلم ذلك او يجهله ثم يجعل رب كل ذلك عرضة ليمينه الكاذبة او الصادقة! وهذا ان دل على شيء فإنما يدل على تسلط الانانية ونفوذها في هذا الشخص الجاهل او المتجاهل.
وثمة مثل اخر ايضا نورده في هذا الصدد لغرض تبيين خطورة عبادة الذات والجهل بحقائق عبادة الله والاتصال به، فهناك من يصلي ولكنه يجهل حقيقة السر وراء وجوب الصلاة، او يجهل او لا يهتم بمعرفة ابعاد هذا القول وهذه الحركة من اقوال وحركات فريضة الصلاة التي هي اساس الدين وعموده. فهل يا ترى عرف العباد معنى تكبيرة الاحرام؟ او معنى رفع اليدين إلى الاذنين لدى هذه التكبيرة؟ علما انها تمثل الحركة الاولى في الصلاة، اي انها الجسر إلى الدخول في رحاب الله. وبالتالي، هل علم ركعاته التي يؤديها ليست إلا جهدا عبثا؟! فعندما يكبر المصلي العارف ربه فإنه يعني ان ربه اكبر من ان يوصف وانه السبوح القدوس المنزه من كل عيب ونقص، وهو حينما يرفع يديه لدى التكبير فأنه يقصد بذلك انه يخلف الدنيا وراء ظهره ويقبل طاهرا على ربه الذي هو الوحيد الذي يستحق العبادة والخضوع من بين جميع الاشياء. ولكن المصلي الجاهل بربه، والذي لا يعير اهمية تذكر بإقامة العلاقة المباشرة وتوطيدها بربه فتراه يفكر في كل شارد و وارد في صلاته سوى الله عز وجل ليثبت بذلك انه جاهل ومتجاهل قيمة لحظات عمره المعدودة، هذه اللحظات التي ينبغي ان تصرف في طريق الوصول إلى الله وليس غير ذلك.
ثانياً: حجاب الانتماءات
هناك حجاب خطير يفصل بين الانسان وربه، وهو نوعية انتمائه، فقد ينتمي إلى الارض او الحزب او القائد او العنصر او غير ذلك من الاشخاص والأشياء، ولكن هذا الانتماء اذا تجاوز حدوده ومعاييره سيكون وبالاً على صاحبه.
فالذين عبدوا النبي عيسى بن مريم عليه السلام من دون الله وقالوا فيه ما لم يؤمروا به، كان انتماؤهم اليه حجاباً أدى بهم إلى الضياع والضلال، فهذا النبي العظيم لم يكن سوى عبد من عبيد الله الصالحين ارسله لهداية البشرية، غير ان نوعية الانتماء اليه من قبل من عبده كانت انحرافا فاضحا، والذين عبدوا اميرالمؤمنين علي عليه السلام هلكوا بحجابهم الذي فرضوه على أنفسهم، وقد قال علي في ذلك: (هلك في اثنان؛ مبغض قالٍ ومحب غال)، فلقد كان هذا الامام بعد رسول الله أعبد العابدين وأول المسلمين والمؤمنين، وكان احوطهم واحذرهم وأحبهم للإسلام ولكنه تحول إلى حجاب من دون الله بفعل من جهل مكانته ومنزلته الحقيقية فعبده من دون الله عز وجل.
ان نوعية انتماء المرء إلى حزب او تيار قد تسبب له الكثير من المتاعب والويلات ولعل مسيرة الحزب قد تكون صحيحة وفي سبيل الله ولكن هذا المنتمي وبتصوره الخاطئ يجعل من حزبه حجابا بينه وبين ربه، في حين يهدف الحزب او الهيئة او المسجد او التجمع أن لا يغفل الانسان عن كون هذه المفردات ليست سوى وسيلة نافعة له الى الله تعالى.
فعندما يقر الانسان المسلم ان الله وحده لا شريك له، عليه ان يعي بأن الله فوق كل شيء، ولا يمكن ابدا ان يكون اعتقاده او سيرته لغير الله، فإذا كان عمله لله وللوطن مثلا فعليه ان يعيد حساباته مرات ومرات حتى يكون عمله لله وحده وقد جاء في الحديث القدسي: (انا خير شريك، من عمل لي ولغيري جعلته لغيري). ان الله سبحانه وتعالى يرفض العمل النابع من نية مشتركة، بل انه يتلقى ويتقبل العمل الصالح الخالص لوجهه الكريم. اما ما كان يقال في السابق، ولا يزال يقال في بعض البلدان الاسلامية كشعار وطني: (الله الوطن الملك). او (الله الملك الشعب)، فهو لا يعني سوى نوع من الشرك المبطن يرجى منه استغفال البسطاء من المسلمين والانحراف بهم إلى جادة الباطل والشيطان.
ان في سيرة ائمة اهل البيت عليهم السلام وفي سيرة بعض علمائنا ومراجعنا خير اسوة لنا في حقيقة الانقطاع إلى الله وحده لا شريك له، فهذا امير المؤمنين علي عليه السلام المصاب بسهم في رجله في معركة صفين، فيعجز الاطباء عن اخراج السهم لانه عليه السلام دائم الحركة، حتى اشار عليهم الامام الحسن المجتبى عليه السلام ان يأتوه وهو قائم يصلي إلى ربه حيث لا يتحرك مطلقاً ويكون منقطعاً بالكامل عما حوله، فاخرجوا السهم من رجله دون ان يشعر بهم. وهذا الإمام الحسين سيد الشهداء عليه السلام وهو في اشد الساعات حيث كان يجود بنفسه المقدسة لا يسعه إلا أن يترجم عظيم اتصاله بربه حيث يقول:
تركت الخلق طرا في هواكا
وايتمت العيال لكي أراكا
فلو قطعتني بالسيف اربا
لما مال الفؤاد إلى سواكا
ولنا أمثلة من علمائنا الابرار مثل آية الله العظمى الخونساري (رحمه الله) الذي كان يرفض حقنه بمادة المخدر لاجراء عملية جراحية له، لئلا يغيب عن الوعي، فيغيب عن ذهنه ذكر الله...
من هنا فان صيام شهر رمضان والدعاء وقراءة القرآن والصلاة فيه كل ذلك يعد وسائل التقرب إلى الله تعالى، فمن صام فعليه ان يضبط نيته وجوارحه ويحملها على تكريس الهمة للسير النزيه إلى الباري عز وجل.
القراءة الواعية للقرآن الكريم
لابد ان تكون قراءة القرآن في هذا الشهر الفضيل، قراءة واعية، فإن الله قد تجلى لعباده في كتابه القرآن الكريم كله، فمن اراد ان يرى وجه الله فعليه ان يتدبر في كتاب الله. ان قول الله يجب ان يصل إلى قلب الإنسان، وذلك بعد ازاحة انواع الحجب عنه، و من اهم الوسائل لتحقيق هذا الهدف المقدس هو الاستفادة من فرصة شهر رمضان، فإذا ما تمت الاستفادة من ذلك كان الصيام صياما واقعيا بمعنى الكلمة، وكان الانسان الصائم في ذلك الوقت اقرب إلى ربه من اولئك الذين ليس لهم من صيامهم إلا الجوع والعطش. فإزالة الحجب تعني عدم قبول الانسان أي كلام يصدر هنا وهناك، وهذا الاعصار الاعلامي والثقافي العام الذي يتعرض له العقل المسلم في العصر الحاضر لا بدّ ان يكون له ما يقابله من فرقان ونور الهي يدحضه، وهذا الفرقان والنور ليس سوى ارادة الانسان المسلم المؤمن بالفرار إلى الله والتقرب منه،
ان الالتزام بتفاصيل الصوم القرآني الذي تتحدث عنه الآيات المتقدمة الذكر يرفع المرء إلى مستوى الاولياء او الانبياء والصديقين والشهداء وحسن اولئك رفيقا لان من اقترب من الله شبرا اقترب الله منه ميلا، وعند ذلك لن تؤثر فيه حجب الشيطان ووساوسه فهو قد قطع المسافة او لنقل ان المسافة بينه وبين ربه قد تلاشت حتى وصل إلى درجة الكمال.
|
|