القضاء والقدر. . قاعدة الانضباط والقانون في الحياة
|
*علي عبد الصمد
لله سبحانه وتعالى طريقتان للتأثير في الكون؛ الطريقة الأولى مباشرة، والأخرى غير مباشرة. فالطريقة الأولى تسمّى طريقة الأمر والقضاء والوحي والغيب وما الى ذلك من مسميّات عديدة يطلقها القرآن الكريم على الطريق المباشر للتأثير في الكون.
أما الطريقة غير المباشرة فيطلق عليها في القرآن الكريم أسماء عديدة من مثل السنّة والفطرة والتقدير، وأسماء أخرى تدل كلّهاعلى الطريقة غير المباشرة للتأثير في الكون. وهنا نضرب للطريقتين مثلين يوضحانهما؛ مثال الطريقة الأولى إنّ الله سبحانه عندما خلق الكون أوّل مرة فقد خلقه من غير أداة، ومن غير أن يحتاج الى وقت وتفكير وسبب، بل كان أمره إذا قضى شيئاً أن يقول له كن فيكون بسرعة قصوى، بل وبدون وقت. فهو تعالى لم يكن محتاجاً الى وقت لكي يخلق الكون، فليست هناك فاصلة بين (كن) و(كون)، بين أمر الله وبين أن يحقق شيئاً، فالزمن معدوم في خلق الله.
أما الطريقة الثانية فمثلها مثل كلّ مايقع في الحياة، وعندما تشرق الشمس أوّل الصبح فانّها تشرق بالسنّة الفطرية، وهكذا الحال بالنسبة الى غروبها، وعندما يمطر السحاب فانّه يمطر أيضاً بسنّة فطريّة، وهذه سنن خلقها الله تعالى في الكون، وهي قوانين ونظم وتقديرات وتدبيرات.
فالله تعالى هو الذي يجري السنن ولكن بطريقة غير مباشرة. وهكذا فانّ الطريقة الأولى تسمى بطريقة القضاء، والثانية بطريقة القدر، وهذا هو الذي ما اصطلحنا على تسميته بـ(القضاء والقدر). وعلى كل مؤمن أن يؤمن بكلّ من القضاء والقدر، فيؤمن بالقدر لكي يعرف أنّ هناك سنناً طبيعية فطرية تحرك الحياة كلّها وفقها، وأنّ هذه السنن هي سنن الله؛ ويؤمن بالقضاء لكي عرف أنّ الله عزوجلّ له سنّة كونية مهيمنة، وتأثير غيبي مباشر، وأنّ السنن الفطرية الموجودة لا يمكنها أن تقف حائلاً دون سنن الله المهيمنة؛ بمعنى أنّ الله تعالى لو أراد للنار أن لا تحرق فانها ستفقد خصوصيتها هذه.. وهذا هو معنى القضاء الذي يجب على الانسان أن يؤمن به.
لماذا الإيمان بالقدر؟
عند التأمل في (سورة فصلت) ثمَّة تساؤل يتجدد : ياترى ما هي علاقة (الإستقامة) في قول الله سبحانه: "قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ" (فصلت، 6)، وبين (الإستقامة) المشار إليها في قول الله تعالى: "إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ" (فصلت،30).
الجواب على ذلك يكمن في كلمة واحدة مذكورة في سورة (فصلت) أيضاً، في قول الله تعالى: "سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ" (فصلت، 53).
فكلمة (الحق) هي الكلمة التي تجيب على ذلك التساؤل، وذلك أنها تعني أن تقدير الله تعالى في الكون حق، وأن كل ما حولنا يسير وفق مخطط حقّ ينتهي الى أجل حقّ، وهناك حدود بسيطة للغاية أمرنا الله سبحانه أن نختار فيها بالحق. إنّ هذا المفهوم هو مفهوم القدر، وعندما يطلب الله تعالى منا أن نؤمن بالقدر، وعندما يبيّن لنا أنّه خلق السماوات في يومين، فانّ يريد أن يفهمنا أنّ هناك حدوداً.
فالأمور في الحياة ليست فوضى، بل محكمة محددّة، والقرآن الكريم عندما يقول إنّ الله قد خلق الارض في يومين، "قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَاداً ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ" (فصلت /9)، فانّ هذا تحديد زماني، وعندما يقول إنّ أهل الأرض قدّرت أقواتهم في أربعة أيّام، فان هذا تحديد كمي. كما أنّ الانسان مقدّر هو الآخر، فهناك أنظمة تحكم حياتنا، وهناك علاقات تضبطها، والانسان ليس بعيداً عن هذه الحياة، فكلّ ما يقوم به من أنشطة حياتية يتأثر بحركة السماوات والأرض والشمس.
الحق سبيل الوصول الى الاستقامة
وهكذا فانّ الكون تقدير كله، مادامت الحياة كلها تقديراً، وأنّ الحياة تتحرك ضمن فلسفة الحقّ، فلا بدّ أن أكون أنا أيضاً على الحقّ، وأستقيم عليه، ولذلك فانّ القرآن الكريم يقول: "فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ" "فصلت، 6"، أي استقيموا إليه من خلال سيركم في الطريق الصحيح. ومن المعلوم إن الانسان يحمل في نفسه نوازع تجرّه يميناً وشمالاً، ولذلك يقول القرآن الكريم: "وَاسْتَغْفِرُوهُ"؛ أي ارجعوا بسرعة الى الحقّ كلمّا تطرفتم الى اليمين واليسار، لكي تحصل لكم الاستقامة. "الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا" (فصلت،30)؛ أي الاستقامة على طريق الحقّ.
وعلى هذا فانّ حكمة القدر الموجودة في القرآن، وخصوصاًً في سورة (فصلت) قائمة على أساس أنّ الانسان يجب أن يعرف أن حياته هي حياة مضبوطة، وأنّ حريّته محدودة ضمن إطار الحقّ، وأنّه لايمكنه استخدام حريّته هذه في غير هذا الإطار.
ولذلك فانّ القرآن الكريم يضرب لنا بعض المثلة الحازمة والقوية التي يجب على الانسان المؤمن أن ينتبه إليها، ويدقق فيها. إنّه يقول لنا: انظروا الى الأمم التي هي أكبر من الفرد الواحد، وأقوى وأكثر استمرارية منه، ولكنّ هذه الأمم ـ أياّ كانت ـ إذا انحرفت عن الحقّ، فانّ الله تعالى سيوجه إليه ضربة قوية علّها تعود الى هذا الحقّ، وترتدع عن غيّها. فما بالك بالفرد الذي من المستحيل عليه أن يخالف الحقّ وينتصر عليه، لأن القرآن الكريم يقول: "فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِّثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُود" (فصلت، 13)؛ أي إنّ صفعة قوية ستأتيكم من الحقّ ـ تعالى ـ ذلك لأّنه قد أرسل إليكم الرسل، وألقى عليكم الحجّة. قال الله سبحانه "إِذْ جَاءتْهُمُ الرُّسُلُ مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ" (فصلت، 14)؛ أي إنّهم انحرفوا عن الحقّ، واستكبروا عليه قائلين: "مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً)؟ في حين أن القوة المتجلية في رب السماوات والأرض، هي الأقوى منهم. "أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً" (فصلت،15)
ثم يبين الله تعالى نوع العذاب النازل عليهم، بقوله سبحانه : "فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي أَيَّامٍ نَّحِسَاتٍ لِّنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنصَرُونَ" (فصلت، 16).
وهكذا فانّ حكمة التقدير والقدر تستوجب منّا أن نؤمن بالحقّ، وأن نعتقد أنّ ربنا سبحانه هو ربّ الحقّ، وأنّه خلق الأشياء بالحقّ، فلا بد لنا من أن نستقيم على هذا الحقّ، لنجزى الجزاء الأوفى، إلّا فانّ الحقّ تعالى سيأخذنا بعذاب الهون كما حدث للأمم السابقة.
|
|