قسم: الاول | قبل | بعد | الاخير | عناوين اقسام | عناوين جميع اقسام

الزلزال الثقافي مقدمة للتغيير الشامل
لمشاهدة الصورة لحجم اكبر إضغط علي الصورة *أنور عزّالدين
يدور بين المفكرين جدل طويل حول تحديد نقطة البدء في حركة الانسان نحو الاصلاح والتكامل، فمنهم من يؤكد على العامل السياسي او الاقتصادي او الجغرافي، بينما يرى البعض الاخر ان التربية الثقافية هي المنطلق الاساس لبناء الحضارة البشرية، ولاريب ان الثقافة التي هي رؤية الانسان للحياة، والقوالب الجاهزة التي يصب فيها معلوماته وتجاربه واحاسيسه، ذات اثر اكثر فاعلية وحسماً من أي عامل آخر.
ان الاصلاح الثقافي يسبق الفاعلية الاصلاحية، والثورة تسبق الفاعليات الثورية الاخرى، كما ان نسف التبريرات التي تكرس الانحراف وهدم الافكار التي يعتمد عليها المنحرفون، يسبقان نسف الانظمة القائمة على هذا الاساس.
ترى من الذي ينبغي عليه ان ينقذ الانسان من الاخطار المحدقة به، هل الطبيعة ام الانسان نفسه ؟
الانسان - بالطبع - هو الذي لابد ان يحرك دولاب الحياة، وان ينقذ نفسه بارادته، وبما حباه الله من قدرات ومواهب، وهنا يتبادر الى الذهن السؤال التالي: ما الذي يحرك الانسان في هذا الاتجاه او ذاك ؟
وللاجابة على هذا السؤال نقول : ان الانسان اما ان يكون محركا من قبل الاخرين، او انه هو الذي يحرك نفسه بنفسه، ونحن لسنا من انصار النظرية القائلة بان هناك انسانا واحدا يحرك الاخرين نحو الاصلاح، لان مآل هذه النظرية الاعتقاد بشرعية الحكم الفردي والديكتاتورية في مجالاتها المتعددة، فالانسان الذي يحرك الجماهير نحو اسقاط نظام واقامة نظام اخر مكانه سيتحول مع مرور الزمان وبفعل عوامل مختلفة الى طاغوت آخر يشبه سلفه الذي سقط وتهاوى عرشه.
وازاء ذلك لا مناص لنا من تأييد تلك النظرية التي تنسجم تماما مع السنن والقوانين الطبيعية والتي تقول ان الانسان يجب ان يحرك نفسه بنفسه، وان يصلح واقعه بعد ان يثور بنفسه على الاستعباد والانحراف من خلال تغيير فكره وثقافته و رؤيته الى الحياة.
فهناك ركام من الافكار الفاسدة التي يعتمد عليها كل طاغوت، و تخضع لها كل امة رضيت بسلطة هذا الطاغوت، والثورة الاصلاحية لايمكن ان تنتصر مع وجود الركام الذي يحجب بين الانسان وبين رؤية واقعه.
العلمانية وثقافة التبرير
على سبيل المثال فان الثقافة التي ترى ان الدين يجب ان يبقى بعيداً عن السياسة كان لها تأثير سلبي كبير على الثورات التحررية في البلاد الاسلامية، وهذه الثقافة تقوم على فكرتين خبيثتين هما :
1 - ان السياسة وضعت لتكون دجلاً ونفاقاً وكذباً وارهاباً وطغياناً، وان هذه الصفات هي من طبيعتها اللازمة لها، فلا يمكن ان يتعامل السياسي الا بتلك الاساليب المقيتة.
2 - ان من المفروض بالمتدينين ان يقبعوا في مساجدهم او في بيوتهم وتكاياهم، وان يدعوا الحكام يفعلون ما يشاؤون!!
ترى هل يعقل ان ديناً سماوياً شرّعه الله سبحانه وتعالى يفرض على الناس ان يتركوا السياسة ويبتعدوا عن ميادينها العملية، في حين ان كل بنود هذا الدين انما هي في جوهرها سياسة، فالصلاة والصيام والزكاة والحج والامر بالمعروف والنهي عن المنكر والتولي والتبري وعقود البيع والشراء والزواج والطلاق وما الى ذلك انما هي احكام وانظمة شرعية تدخل عالم السياسة من أوسع ابوابه.
وهناك من يفكر ان توالي الحكومات المتعاقبة على البلاد قدر من الاقدار، ومثل هذا التفكير يعتقد به - للاسف - اكثر الناس في بلادنا، في حين ان هذا افتراء على الله تعالى، ونسبة الظلم اليه تعالى عن ذلك علوا كبيرا، وهذه الفكرة القدرية هي التي قال عنها رسول الله صلى اللـه عليه وآله قبل اربعة عشر قرنا : لعنت القدرية على لسان سبعين نبياً، قيل ومن القدرية يا رسول الله ؟ فقال: قوم يزعمون ان الله سبحانه قدر عليهم المعاصي وعذبهم عليها.
ومثل هذه الفكرة هي التي جعلت حكام بني امية وبني العباس يسيطرون على رقاب امتنا، ومن ورائهم علماء السوء يدعمونهم، والمسيرة متواصلة على هذا الطريق.
ان الحكومات ليست بالضرورة من الله بل انها غالبا ما تقوم بفعل البشر، والناس محاسبون على موقفهم منها ان هم ايّدوها ورضوا بها، كما قال تعالى: "إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ الله وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَاُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَآءَتْ مَصِيراً" (النساء /97). ثم ان الحكام على الأغلب يتعكزون على افكار ظلامية تدعو الى التسطيح والتبرير والتخدير، بالاعتماد على المقولة المشهورة (ليس في الامكان افضل مما كان). هذا التوجه يبعد الناس عن السؤال والتحقيق والمراقبة، بل يجعلهم قابعون في زوايا المعيشة وقضاء الوقت لا غير.
زلزال ثقافي
ان النظام الفاسد لن يتزحزح من مكانه طالما وجد مبرراته في الوجود في مقدمتها القناعات المغلوطة والمقاييس الخاطئة، لذا نجد الكلام والشكوى وحتى بعض التظاهرات والاعتصامات هنا وهناك، لا تجدي نفعاً، بل ربما تصب في مصلحة الحاكم، لأنه سيكون امام العالم بمنزلة الحاكم الديمقراطي الذي يفسح المجال لحرية الرأي والتعبير، وهي بالحقيقة ليست سوى مجالات للتنفيس لتفادي الانفجار المحتمل. لذا لابد من الزلزال الثقافي الذي يقوض البنيان الخاطئ ويقيم صرح البناء الشامخ للقيم والمبادئ التي ضحى من اجلها علماء وعظماء وابطال في تاريخنا الاسلامي.
ان المفكرين والمثقفين واصحاب القلم والبيان مدعوون اليوم بالحاح الى ان ينسفوا جذور الفساد المتمثل في الثقافة المنحرفة، وهنا تكمن مسؤوليتهم وجهادهم لنشر الحقائق، وهذا ما قال عنه النبي (صلى الله عليه واله) : (اذا كان يوم القيامة وزن مداد العلماء بدماء الشهداء فيرجح مداد العلماء على دماء الشهداء). من هنا نجد صاحب القلم الحر ملاحق كما تلاحق افكاره ونتاجاته، وان تعذر ذلك نجد حالات التهميش وغمط الحقوق او حتى ان اقتضت الضرورة تشويه الصورة امام الناس، فقد اصبح أقتناء الكتب التي تعرض الحقيقة على الناس وتفضح سوءة الانظمة الجائرة المتسلطة اكبر جريمة من اقتناء الاسلحة.
وهنا يجب على المفكر الاسلامي ان يقف بكل صلابة يناهض هذا التيار؛ فلولا الاقلام الجريئة التي تزلزل كيان الثقافة الفاسدة وتنسف الاسس القدرية والتبريرية، فان هذا البنيان الجاهلي سيبقى، ويبقى معه الظلم والاستضعاف.