قسم: الاول | قبل | بعد | الاخير | عناوين اقسام | عناوين جميع اقسام

الحج. . البركة الإلهية و الطموحات الكبيرة
لمشاهدة الصورة لحجم اكبر إضغط علي الصورة *إعداد / بشير عباس
كلمتان تفتح للانسان الحاج آفاقاً واسعة بسعة الرحمة الإلهية التي تظلل الحجيج وهم يتوجهون لأداء مناسك الحج هذا العام في أجواء مفعمة بالإيمان والتقرب والخشوع...
الكلمة الأولى : البركة
هذه الكلمة ترد في القرآن الكريم بصيغ وحالات متعددة، فمرةً يقول سبحانه وتعالى: "تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً" (الفرقان /1)، ومرةً يقول تعالى: :"تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ" (الملك /1)، و مرة يقول تعالى حول بيته المحرم الذي بناه ابراهيم عليه السلام" "إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ" (آل عمران /96)، ونحن نردد في الادعية نفس الشيء ونقول: (اللهم اهدني من عندك وافض عليّ من فضلك وانشر عليّ من رحمتك وانزل عليّ بركاتك...).
في الوقت الحاضر نستقبل موسم الحج، حيث يفد حوالي ثلاثة ملايين حاج من شتى انحاء العالم ومن كل فجٍ عميق، ليطوفوا حول بيت الله الحرام ويقضوا مناسكهم، إذن، هذه الفريضة العبادية تختلف عن سائر الفرائض فهي خاصة بشهر معين، وتتم المراسيم فيها خلال ساعات، فهي ليست مثل شهر رمضان المبارك على امتداد شهر كامل، يمكن للمعذور قضاء ما فاته من الصيام، انما هي لحظات تنقضي بسرعة، وفي هذه البرهة الزمنية على الحاج ان يفكر بكيفية الحصول على البركة، بل ماذا تعني البركة بالأساس؟
التزوّد من العمق
هنالك أشياء يقدر بعضها بحجمها وبعضها بعمقها، - مثلاً- نجد هنالك معادن متنوعة في العالم، منها يوزن بالبرميل مثل البترول او بالقيراط مثل الذهب او الالماس والاحجار الكريمة، كما هنالك مادة (اليورانيوم) الذي يقدر سعر الكيلو غرام الواحد منه بحوالي مليون دولار، والسبب لأن هذا المعدن يستخدم في تشغيل المفاعل النووي والذي له استخدامات متعددة منها السلمي ومنها العدواني.
إذن، فقيمة الاشياء لن تكون بحجمها إنما بقيمتها الذاتية والعميقة، وهكذا في عالم المعنويات، فالانسان يواظب طيلة ايام السنة على أداء الفرائض العبادية من صلاة وصيام وغير ذلك، لكن يصل الى شهر رمضان المبارك فيجد انه امام ليلة هي خير من ألف شهر، أي حوالي 83 عاماً، بل احياناً يكون للساعة أثر عظيم، كما جاء في الحديث الشريف: (تفكر ساعة افضل من عبادة سبعين سنة)، بمعنى ان قيمة الاشياء بامتدادها الزماني وليس المؤقت والعابر، وهذه هي معنى البركة، حيث تتحرك روح الانسان، ويتحرك عقله ويستفيد من العمق، فهو لا يستفيد من الوقت وحسب، ربما الانسان الحاج وهو اثناء الطواف حول البيت يشعر بالتجلّي الالهي، فيخاطبه سبحانه وتعالى في باطنه : عبدي...! اطلب ما شئت أعطيك، إنها لحظة... بل قد يكون في هذه الكلمة مبالغة، لانه المعنويات لا يحكمها الزمان، بل نقول: (اشراقة)، لذا ندعو دائماً من البارئ عزوجلّ أن يتلطف علينا بنظرة واحدة فيرحمنا، فهو تعالى بنظرة واحدة الى ذلك الجبل (... جعله دكّا وخر موسى صعقاً)، وهذا ما يجب ان نطلبه أثناء أداء مراسيم الحج. نطلب التحول النوعي وليس الكمي.
ما عند الله باقٍ
هناك من يكتب و يؤلف ثم يبحث عن مؤلفاته في رفوف المكتبات، وعن اسمه بين اسماء المؤلفين، لكن هنالك أيضاً من يكتب ويؤلف بالعشرات لكنه يجهل كتاباً ربما ألفه من سنوات بعيدة لأنه نفذ من الاسواق وقد كتب بعده عشرات الكتب والمؤلفات، جاءت بعد ذلك الكتاب بعد تطورات ومستجدات عديدة، فالمهم عنده البركة وهو يبحث عنها من خلال توفيقات الله تعالى له.
كان في إيران خطيب شهير يُقال له الشيخ محمد تقي الفلسفي وقد توفي عن عمر ناهز الـ (91) سنة، وكان من كبار خطباء المنبر وقد مات وهو على المنبر! قال ذات مرة: (ان عملنا هو عمل الفلاح الذي يزرع لكن الله تعالى هو الذي يخرج الزرع)، والله تعالى هو الذي يسقي الارض و يرسل الرياح المبشرات برحمته، وهو يهيئ كل الاسباب لحصول الانسان على ما يريد، وما عليه سوى الحركة وبذل الجهد والمثابرة.
يقال ان وراء النهضة الصناعية الكبرى في اليابان شاب دعا للعمل والتطور فحكم عليه بالاعدام جزاءً لما كتبه ودعا اليه! لكن دعوته اصبحت فيما بعد منطلقاً للتحرك والانطلاق نحو التقدم والتطور الذي نشهده اليوم.
اعتزم تأليف كتاب حول كلمات النبي الأكرم صلى الله عليه وآله ذات الامتدادات التاريخية، وحتى الآن حصلت على ثلاث كلمات؛ أحدها (المسلمون تتكافأ دماءهم، وهم يد على من سواهم، ويسعى بذمتهم أدناهم)، هذه الكلمات القصيرة قالها النبي الأكرم لكنها خلقت أمة، والكلمة الثانية: (من أحيا أرضاً مواتاً فهي له)، هي الأخرى كلمات معدودة، وكذلك الحديث الشريف: (النكاح سنتي فمن رغب عن سنتي فليس منّي)، نرى اليوم حجم الأثر البالغ الذي تركته على الاجيال والحضارة والتاريخ، كل ذلك لأن الله تعالى بارك في هذه الاحاديث ويبارك ايضاً في كل عمل ينتهي اليه، "مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ اللّهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُواْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ" (النحل /96).
إن يوسف الصديق عليه السلام "باعوه بثمن بخسٍ دراهم معدودة وكانوا فيها من الزاهدين" والذي اشتراه قال لماذا ضيعنا اموالنا على لا شيء! انه غلام مطرود من أهله و... لكن عندما بعثه الذي اشتراه الى مصر إذا بالناس يعجبوا بهذا الولد وبلطافته وبهاء وجهه، فتهافتوا عليه، فالرجل الذي أتى به قال: ابيعه بوزنه من الاحجار الكريمة، فمن يأتي بوزنه من الاحجار الكريمة يأخذه، فوضعوا يوسف في كفّة وأتوا بأحجار كريمة من الماس و زمرد وياقوت وذهب ومعادن ثمينة و وضعوها في الكفة الأخرى، لكن المفاجأة أن هذه الكفة رغم امتلائها بالاحجار الكريمة والثقيلة، لم ترجح على كفة يوسف، كما لو ان وزن يوسف اصبح ثفيلاً جداً، فاخبروا السلطان، فجاء بخزائنه من الاحجار الكريمة وافرغوها في الكفة الثانية، لكن يوسف بعد هو الأثقل! رغم انه جسمه لم يكن بالمملئ وهو طفل صغير، فنظر يوسف هنا وهناك فرأى الملك جبرائل سلام الله عليه واضع ريشه على الميزان، وهذا لا يعد غشّاً فيوسف موجود في الكفّة وحيداً وهو لا يزيد على (30) كيلو غرام او اكثر، لكن ليس طناً، وهذه هي البركة التي يبعثها الله تعالى للانسان المؤمن.
الوصول الى مكّة بركة
البعض يشعر دائماً بالاحباط من كثر الدعاء والسؤال الى الله تعالى بأن يوفقه لحج بيته الحرام، لكنه يجد نفسه في كل عام في مكانه وتنطلق افواج الحجيج من دونه، فيما نرى كل عام الحجاج الذين يذهبون الى الديار المقدسة بواسطة الجو او البر او حتى البحر، ينشغلون بامتعتهم وجوازاتهم، وكيف تكون اماكن اقامتهم و... غير ذلك كثير من تفاصيل الرحلة، بل حتى بعض الاخوة الذين يفدون لزيارة الامام الحسين عليه السلام ويدعون الله تعالى، وهم يغفلون عن ان زيارتهم هذه هي بحد ذاتها توفيق واستجابة لدعوات ماضية لهم، يقول الامام السجاد عليه السلام في مضمون الدعاء: (اللهم أمهلني عن شكر تواتر نعمك...)، فمن كثر ما يوجد من نعم ينسى الانسان شكر المنعم.
إن كثير من الاخوة لم يكن يتصور انه يتمكن من الوصول الى الديار المقدسة، لكن ربما حصل التوفيق بدعاء في ليلة القدر أو دعاء في ليلة النصف من شعبان، يقال انه في النصف من شعبان تعد الملائكة قائمة الحجاج، وفي ليلة القدر يتم الاقرار على القائمة من قبل البارئ عزوجلّ والناس في عفلة من هذا، فكما ان الحاج لم يصل الى الديار المقدسة إلا بعد ان يدفع اموالاً لوسيلة النقل والاقامة ولغير ذلك، فانه قبل هذا كله، وصل من خلال الدعاء والتوسل ثم الاستجابة من قبله سبحانه وتعالى وليس عبثاً وبالمجان. فلا يتسلل اليأس والاحباط عند البعض، حتى قيل للامام السجاد عليه السلام: ياابن رسول الله من أعظم الناس ذنباً، قال: (أعظم الناس ذنباً من طاف حول هذا البيت وهو وقف هذا الموقف ثم ظنَّ ان الله لم يغفر له)
الكلمة الثانية: سعة الطموح
من أهم قنوات استحصال البركة من الحج، سعة الأفق والطموح التي يعطيها للحاج، يقال (الحاج لايفتقر)، ولعل الحج من طرق الحصول على الغنى، وبما ان الانسان محب للحركة والنشاط فان ما يريد يعطيه الله، وكما يقول الامام أمير المؤمنين سلام الله عليه: (من رام شيئاً بلغه أو قريباً منه)، ربما يطلب البعض من الله تعالى المال او العافية وهي افضل من المال بكثير، او اشياء وامور اخرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة، وهكذا يكون طموح الانسان خلال موسم الحج عظيماً وكبيراً.
احد علماء الدين كان يطوف حول البيت الحرام خلال مراسيم العمرة وكان يوم الخميس ليلة (19) رجب، يقول: بينما انا في حالة الطواف واذا بنسوة من خلفي ينادين عليّ: عندي حاجة ايا السيد...! تفضلي... ان زوجي لم يوفق لأداء الحج الواجب وسألت الله ان يوفقه، والحاجة الثانية: أن يكون أولادي من اصحاب الامام الحجة المنتظر عجل الله فرجه، والحاجة الثالثة: أن ارى في هذه العمرة الامام الحجة عجل الله فرجه، فقال لها ذلك العالم: ليوفقك الله ويبارك لك، فهي كانت تدعو وهو يؤمن على دعائها، ثم قالت بعد ذلك : اريد رؤية نور القرآن الكريم، بحيث عندما أقرأ القرآن انتبه الى نوره، قال لها: الله يبصرك و بارك الله بك... ثم قالت: اريد ان تكون ذريتي الى يوم القيامة على خط الولاية، وفيما هي تواصل الطواف من عالم الدين، وصلت الى موضع الحجر الاسود، قالت: اريد أمرا آخر...! اريد ان يعطيني الله قدرة طيّ الأرض حتى أصل وسط هذا الزحام الى الحجر الاسود.
هذه المرأة العجوز مدعاة للتأمل فهي وبعد مضى كل هذه السنين عليها، ماتزال تحمل الطموح والأمل الكبيرين، ولا تستكثر من أي حاجة تطلبها عند بيت الله الحرام، وهي حاجات من النوع الرفيع والثقيل. وذات مرة كنت واقفاً في المسجد الحرا م قبالة الكعبة المشرفة، واذا إمرأة طلبتني للسؤال وقالت: هل يمكن ان نصبح من اصحاب الامام الحسين...؟! اجبت ان هنالك عالمأً قبل هذا العالم يقال له (عالم الذر)، هناك خاطب الله تعالى الخلائق: "ألست بربكم..." أجابوا: بلى... لكن ليس كلهم، فكان اولهم النبي الأكرم صلى الله عليه وآله، لكن انت يا أختي تأخرتي هناك، فقد أجاب اصحاب الامام الحسين في كربلاء بسرعة، جاء في الحديث حول مكانة الصديقة فاطمة الزهراء (امتحنك الله قبل ان يخلقك)، بمعنى هنالك امتحان قبل امتحان الدنيا، ثم اردفت: اذا التزمت بتعاليم الدين بشكل صحيح، تكونين من اصحاب الامام الحسين عليه السلام يوم القيامة، فنحن ندعو في زيارة عاشوراء: (اللهم إجعلني مع الحسين سلام الله عليه).
إذن، على الانسان أن لا ينسى الطموح والطلب من الله تعالى ما يريده، فمن يحمل طموحاً عالياً تنفتح أمامه آفاقاً واسعة، فلا يفكر بعدئذ بالحاجات البسيطة والصغيرة، كمن يرى البحر فيشتهي السباحة، وهكذا رحمة الله الواسعة من يراها يكون عنده طمع بالحصول على الأكثر، فعلى الانسان ان يطلب المزيد، في المجالين المادي والمعنوي، فيطلب أن يكون احسن الناس واقربهم الى الله وافضلهم عملاً.
ان الانسان اذا وصل الى معرفة الكمالات الروحية فان الكمالات المادية تتضاعف لديه، فهو قد يطلب البيت والمال وكل مستلزمات الحياة، فهي مهمة، لكن الأهم والذي نخلو منه هو بركة الاصدقاء والعشرة الحسنة، فهنالك من له زوجة مؤمنة وصالحة ومتقية لكن لا يعرف قدرها، يقدرها، فاذا لم يقدرها ويحترمها لن يستفيد من وجودها، وبالنتيجة تكون العلاقة بينهما سلبية، وهنالك البعض لا يتكلم مع زوجته إلا بمقدار الضرورة! كما لو انه (زعلان)، وهي إمرأة خلقها الله تعالى واعطاها العقل وقدرة التفكير والتمييز والشعور، لذا يجب علينا ان ننظر في طريقة تعامل أمير المؤمنين عليه السلام مع الصديقة الزهراء عليها السلام، ويكون طموحنا ان تكون علاقاتنا الزوجية على شاكلة تلك العلاقة، جاء بان عليه السلام عندما كان يخرج من الغرفة لم يكن يعطي قفاه الى الزهراء عليها السلام، وبغض النظر عن منزلة الزهراء وأمير المؤمنين عليهما السلام، لكن الانسان عليه الطموح والسعي ليصل الى شيء من ذلك. وكذلك الحال بالنسبة للعلاقات بين الاصدقاء والمؤمنين وعموم العلاقات الاجتماعية.
لنطلب البركة في قدرة التعامل مع الناس، و نكتشف إيجابيات الناس لا أن نكون عيناً على اخطائهم وسلبياتهم بل نستفيد من هذا وذاك، في صلاة الليل – مثلاً- ندعو للمؤمنين لتنهار الحواجز النفسية بين المؤمنين.