عالم جاهل يدّعي العلم
|
* طاهر القزويني
حكاية العلم والجهل هي حكاية طويلة وعريضة، بطول التاريخ البشري وعرض الكرة الأرضية، فهي على ما يبدو قضية انسانية منذ بداية الخلق وحتى اليوم، وبرغم ما نعيشه من التقدم العلمي والتكنلوجي إلا إن هذه القضية مازالت من القضايا المهمة التي تقحم نفسها في كل صغيرة وكبيرة من أمور البشرية.
فلو ألقينا نظرة على عالمنا اليوم سنجد أن الجميع من إسلاميين وليبراليين وعلمانيين وغيرهم يدعي العلم وينفي الجهل عن نفسه، وإذا نظرنا إلى الأفراد من علماء دين وعلماء دنيا سنجد أن أغلبهم يدعي العلم وينفي الجهل عن نفسه، لكن تعالوا لنقرأ ما قاله الإمام علي (عليه السلام) في وصف العالم والجاهل لنعرف صدق إدعاء الناس من كذبهم، قال (عليه السلام) في وصية لأبنه الحسن: (العالم من عرف أن ما يعلم فيما لايعلم قليل...).
فالعالم ليس ذلك الذي يعرف كل شيء، بل العالم هو الذي يستقلل العلم والمعرفة، لأنه لايعرف مقدار العلم ومدياته فربما يظن أن ما يملكه هو كل شيء من العلم و المعرفة.
وإذا أردنا أن نضرب مثالاً بسيطاً على ضآلة المعارف التي لدى الناس نأخذ من كلام الإمام علي(ع) في وصيته هذه للإمام الحسن(ع) حيث يقول له في مستهلها: (يا بُني إني وإن لم أكن قد عمّرت عمر من كان قبلي، فقد نظرت في أعمارهم، وفكرت في أخبارهم، وسرت في آثارهم حتى عدت كأحدهم، بل كأنّي بما انتهى إليّ من أمورهم قد عمّرت مع أولهم إلى آخرهم.) وهنا أتساءل وأقول أي واحد من علماء الدين أو الدنيا اليوم يضطلع بمثل هذا المستوى من العلم؟ بحيث انه درس جميع الوقائع والأحداث التي مرّت بها الأمم، وبحث في آثارهم وإنتاجاتهم العلمية وغير ذلك، وحقق في شؤونهم حتى أصبح كأحدهم؛ لا أظن أنه يوجد في هذا العالم من علماء الدنيا أو الدين قد بلغ هذه المنزلة، حتى علماء التاريخ الذين يتخرجون من الجامعات المعاصرة ويختصون في دراسة حضارة ما أو حياة أمة.. بينما بحث الإمام علي عليه السلام في تاريخ تلك الشعوب ليس على مستوى التخصص فحسب بل إلى مستوى أن يصبح واحداً منهم، يعني أن ما درسه لم يكن على مستوى التحليل والتخمين كما هو السائد في الدراسات الاكاديمية اليوم، إنما على مستوى اليقين، لأن ما يتم دراسته في جامعات اليوم، إن هي إلا فرضيات ظنية قابلة للأخذ والرد، في حين ما كان يعرفه الإمام عن التاريخ كان يمثل حقائق علمية ثابتة، وهناك فرق كبير بين الظن واليقين، هذا مجال واحد من المعرفة عند الإمام علي (عليه السلام)، فما بالك ببقية المجالات؟
إذن.. العالم الحقيقي هو ذلك الذي يسعى ويجاهد طيلة حياته لطلب العلم وزيادة المعارف ، وعدم الاغترار بما عنده أو يستكثره، ولذا نجد الكثير من علماء الدين الماضين ومع انجازاته العلمية الباهرة في مجال الفقه والأصول، يعلنون ويؤكدون انهم بعد بحاجة الى كسب العلم، خوفاً منهم بألا يفقدوا ما يستجد من العلم، فهم يعلمون أنهم لن يستطيع أن يصلوا إلى آخر نقطة من العلم، يقول أمير المؤمنين (عليه السلام): (فعدّ نفسه بذلك جاهلاً وازداد بما عرف من ذلك في طلب العلم اجتهاداً فما يزال للعمل طالباً وفيه راغباً وله مستفيداً ولأهله خاشعاً)، فهو لذلك لايثق كثيراً برأيه فإذا عارضه شيء من الفكر لم ينبذه بل فحصه ودرسه بإمعان، فإذا ما ثبت بطلانه نبذه أما إذا لم يثبت ذلك فإنه لا يصر على رأيه، لما يعرف من نفسه الجهالة، قال الإمام (عليه السلام): (.. ولرأيه متهما وللصمت لازماً وللخطأ جاحداً، ومنه مستجباً وإن ورد عليه ما لايعرف لاينكر ذلك لما قد قدّر به نفسه من الجهالة).
أما صفة الجاهل فقد ذكرها الإمام علي (عليه السلام) بقوله: (.. وأن الجاهل من عدّ نفسه بما جهل من معرفة العلم عالماً وبرأيه مكتفياً فما يزال من العلماء مباعداً، وعليهم زارياً، ولمن خالفه مخطيّاً ولما لم يعرف من الأمور مضلاً، وإذا ورد عليه من الأمر مالا يعرفه أنكره وكذب به وقال بجهالته ما أعرف هذا، وما أراه كان وما أظنّ أن يكون وأنّى كان، ولا أعرف ذلك لثقته برأيه، وقلّة معرفته بجهالته فما ينفك مما يرى فيما يلتبس عليه رأياً، ومما لايعرف للجهل مستفيداً، وللحق منكراً، وفي اللجاجة متجرياً، وعن طلب العلم مستكبراً)(بحارالانوار، ج74، ص203).
ذكرنا آنفاً بأن قضية العلم والجهل هي قضية مصيرية وتعاني منها البشرية منذ بداية الخلق وحتى اليوم، لكن يجب أن نعرف السبب في هذه الأهمية الكبيرة.
إننا لو تفحصنا وبحثنا في مشاكل العالم من الناحية الاقتصادية والسياسية وحتى بالنسبة إلى الحروب والنزاعات التي تحدث بين الشعوب سنجد أنها ناجمة من الجهل المتعشعش في ضمير الإنسان، فكم من الحروب التي وقعت نتيجة معلومات ناقصة وخاطئة وصلت إلى هذا الطرف أو ذاك؟ وكم من الناس قتلوا على اثر فتاوى صدرت بتكفير هذه الجماعة أو تلك ؟ وكم من الناس يقتلون اليوم في العراق نتيجة الإجازة الشرعية التي حصلوا عليها في سفك دماء العراقيين؟
وهكذا تقع الحروب. وهكذا يقتل الناس الأبرياء، وهكذا تحدث المشاكل العالمية فهي نتيجة أحكام باطلة يصدرها أفراد جهلة يظنون أنفسهم علماء.
|
|