محاضرة يلقيها.. سماحة المرجع الديني اية الله العظمى السيد محمد تقي المدرسي
لننشر ثقافة التسامح والرحمة في العراق
|
اعداد: بشير عباس
لنواجه ثقافة الموت بنشر ثقافة الحياة والرحمة في البلاد
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
"لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ* لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنتُمْ تُوعَدُون *يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاء كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ*وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ*ِإنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغاً لِّقَوْمٍ عَابِدِينَ*وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ*"
آمنا بالله، صدق الله العلي العظيم
كانت الفتاة الصغيرة تنظر الى ابيها وهو يحفر الارض، ربما قامت تمسح التراب من على وجهه وربما ساعدته على حفر الارض ولكنها كانت لا تدري ان هذه الحفرة سوف تتحول الى قبر لها، بعد لحظات أخذها ابوها ودفعها في تلك الحفرة، نداءات الاستغاثة المتكررة منها لم تخترق القلب القاسي لهذا الاب المتعنت وهكذا قبرها ووأدها وهي طفلة بريئة، هذه قصة طالما تكررت في الجزيرة العربية في تلك البلاد التي اشرقت عليها شمس الاسلام وطهرتها من اوثان الجاهلية والتي شهدت العديد من الحروب والنزاعات القبلية والغارات، فمن اجل ناقة اشتعلت حرب طالت 300 عام بين الاوس والخزرج وكم من الناس ذهبوا في هذه الحرب؟ وفي كثير من الاحيان كانت هناك قرى صغيرة مطمئنة وآمنة تتعرض لغارات ليلية وتحولها الى ركام وسط هذا الجوجاء ولكن عندما جاءهم النبي (ص) انزل الله على قلبه الرحمة وانزل معه الرحمة وجعل الرحمة عنوانا لرسالته وقال (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ*).
وجاء محمد (ص) يحمل الى العالم تباشير الرحمة الإلهية حتى قال (ص): "انما انا رحمة مهداة" هدية من السماء الى الارض فهو نبي الرحمة، واليوم حيث تعيش البشرية جاهلية ثانيةً هل هناك خلاص لهذه البشرية من هذه الرحلة السريعة الى الفناء، من يستطيع ان يوقف هذه الجاهلية التي تسلحت اليوم بالقنابل النووية التي ادخرها الناس لهدم حياتهم؟ فمن ينقذ هذه البشرية؟ صواريخ عابرة للقارات، الغواصات التي تحمل الرؤوس النووية والتي تلوث المياه، والطائرات الشبح التي لا يمكن التقاطها عبر اجهزة الرادار، وعشرات من الاسلحة الجديدة التي لا نعرف عنها شيئاً، هذه هي هدية الجاهلية للبشرية فما هي هدية السماء؟ هدية السماء لهذه البشرية هو شخص النبي محمد (ص) لو ان الناس في العالم عرفوا ماذا تعني الرسالة المحمدية وما تحمل من قيم، وثقافة حياة ورحمة، وماذا تعني هذه الآيات الكريمة التي نشرت في ربوع الارض راية السلام وراية الامن وراية العدالة وراية التقدم؟ لو عرفت البشرية ذلك حقا لتغيرت صورة العالم، يوم كان البشر يقتل بعضهم بعضاً بتلك الصور البشعة التي يندى لها جبين الانسانية، حينها كادت البشرية يومئذ تفنى بسبب تلك الثقافة الجاهلية التي كانت تتسلح بالرماح والسيوف والخناجر، بينما اليوم تتسلح البشرية بالقنابل الذرية المدمرة التي فيها من طاقة التدمير اكثر بكثير من القنبلة التي حولت هيروشيما في اليابان سنة 1945 من القرن الماضي الى ركام خلال 16 جزءاً من الثانية، ربع مليون انسان تبخر، لكن هذه القنابل اليوم اخطر من تلك، ولذلك حينما هبطت رسالة الله على جبل النور في غار حراء ذلك اليوم امكانيات الناس كانت بسيطة جداً، واليوم امكانيات البشر تعدّ بالترليون من الدولارات ليس بالمليون ولا بالمليار، الامكانيات كبيرة والاغراءات كبيرة، ذلك اليوم كانت الفحشاء مندسة في مناطق معينة في كهوف وكانت مطاردة لكن اليوم الفحشاء علناً بالاجهزة المرئية عبر القنوات الفضائية والانترنت، ان هذه الجاهلية اخطر من تلك الجاهلية وحاجتها الى الرسالة اكثر، تلك الحاجة كانت حاجة بسيطة واليوم الحاجة معقدة، في ذلك اليوم كانت هناك ثقافة الجاهلية ثقافة الموت بينما ثقافة النبي (ص) ثقافة الحياة، ألا تجد قوله سبحانه وتعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ) اي يبعث لكم الحياة، ثقافة الموت موجودة في ذلك اليوم لكنها ثقافة متلصصة خاطفة، واليوم ثقافة الموت هي ثقافة مسلحة بالمفخخات، اليوم ثقافة الموت مسلحة بهذه الاسلحة شاحنات مفخخة وليس فقط سيارات مفخخة، نحن في العراق لا نحتاج الى بيان فكل يوم نشاهد هذه الاحداث، قال لي احدهم اني دفنت قبل مدة 60 جثة ويداً واحدة حيث لم يبقَ من صاحب اليد الا يده!!.
في يوم من الايام حينما جاء التتر (وهؤلاء الذين قدموا الينا من شتات الارض هم ايضا من احفاد اولائك)، حينما ارادوا احتلال منطقة في ايران تسمى نيسابور هرب اهلها إلا من كان عاجزاً عن الهرب او بادره الغزو فأمر القائد العسكري جنوده ان لا يبقوا في هذه المنطقة شيئا يتحرك من انسان او حيوان الا ويُقضى عليه ثم بعد ذلك جمعهم فقال لهم ماذا رأيتم؟ كل فرد منهم نقل قصته، احد الضباط في جيشه نقل القصة التالية قال: دخلت على بيت فوجدت في ذلك البيت شاباً مرعوباً فهرب مني الى سطح الدار فلحقته واذا بزوجته وطفله هناك فقتلته ثم قتلت المرأة وبعدها قتلت الطفل، فقال له القائد ألم تتحرك عندك العاطفة تجاه العائلة الصغيرة عندما قتلتهم كلهم؟ قال اما بالنسبة الى الرجل والمرأة حينما قتلتهما لم تتحرك عندي اي عاطفة..، ولكن حينما وضعت رأس الرمح في فم الطفل وكان الطفل يتوقعه محلب امه فبدا يسحب كأنه يريد ان يرضع ولكنني غرست الرمح في رأسه هنا رق قلبي قليلاً، امر القائد بأن يقتل هذا الضابط لانه لا يريد في جيشه ان يكون شخص عنده هذا المقدار من رقة القلب هذا المقدار من الرحمة، هذه صورة الجاهلية، وهذه نجدها تتكرر في بلدنا طبعا وجدنا مثلها عند حرملة ووجدنا مثلها عند الكثيرين الذين خالفوا تعاليم الله، الانسان - ايها الاخوة - عندما يترك الدين يتحول الى وحش كاسر ضارٍ وحتى الحيوانات المفترسة عندما تأكل فريستها وتشبع تذهب في طريقها لكن هذه الوحوش البشرية كم يقتلون ولا يكتفون؟ قيل لي انه القي القبض على شخص في منطقة المدائن قد قتل 3000 انسان واذا كان هذا الكلام صدقاً فأين الوحوش من هذا الوحش الكاسر؟ ثقافة الموت ثقافة الاعدام، هي الثقافة التي كانت في يوم من الايام منتشرة عند الوثنيين تحت شعار الخناقين هذه الثقافة اليوم تتجدد وقد تقولون سحابة صيف وعن قريب تقشع، اقول: لا، هذه الثقافة اذا لم نوقفها سوف تنتشر بطريقة او بأخرى ثم تتوالد اجيال على اساس هذه الثقافة، في مواجهة هذه الثقافة ثقافة النبي (ص) (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ)، جاء رجل الى رسول الله (ص) وقال له: انا تاجر كبير وتجارة القمح في اليمن بيدي واهل مكة يحتاجون الى هذه التجارة في طعامهم والآن اخترت الاسلام فهل تأذن لي يا رسول الله ان امنع عنهم الطعام حتى يأتوا اليك مكرهين؟ قال: كلا إنما بُعثت رحمةً للعالمين ولم ابعث نقمة لهم، وأهل مكة هم الذين طردوا النبي (ص) هم الذين آذوه وفعلوا به ما فعلوا وجردوا عليه السيوف وقتلوا عمه ولكن النبي (ص) أبى ذلك وكان ذلك سبباً لإسلام الكثيرين في مكة ((وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ*).
اليوم نحن في العراق وفي المنطقة كلها لا بد ان نشيع هذه الحكمة - حكمة الرحمة - لان الرحمة لا تحافظ فقط على حياة الآخرين وانما تحافظ ايضا على حياتك - ايها الانسان -، وقلبك حينما يكون مفعماً بالرحمة يكون قلباً مطمئناً فيه سكينة الايمان وحينما يكون قلبك قلباً رحيماً فأن هذه الرحمة تتفجر من اطرافك من يدك ولسانك وتتحول الى صفات حسنة في سلوكك وتكون انت محوراً للرحمة النبوية.
هذه الثقافة كيف ننشرها؟ اولاً نحن كما تعلمون نملك سيرةً عطرة وضاءة هي سيرة النبي (ص) الذي فتح العالم كله لا بالسيف ولا بالمال وانما بخلقه العظيم كما في الآية الكريمة (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) هذه السيرة يجب ان نشيعها في بلدنا، ربما هناك في بعض الكتب الدراسية مقتطفات من سيرة النبي (ص) وهذا لا يكفي، ينبغي ان تكون هناك - بحول الله وقوته - مدارس خاصة للسيرة النبوية وتطبع الكتب الكثيرة حولها وكما قال الامام زين العابدين (ع): "كنا نتعلم ملاحم النبي (ص) كما نتعلم القرآن" اي في مرحلة الطفولة، هذه السيرة الوضاءة لا بد ان تنتشر في الامة.
ثانياً: ان نبي الله (ص) تمثلت رحمته في ذريته، عندما تقرأ سيرة الامام علي (ع) تجدُ ذات السيرة وسيرة الحسن المجتبى (ع) وسيرة الحسين سيد الشهداء (ع) وسيرة فاطمة الزهراء (ع) وسيرة الائمة المعصومين (ع) كلها صور اخرى من سيرة النبي (ص)، بصراحة نحن بعيدون عن سيرة واقوال الائمة (ع) ربما كلمة تقرأها هنا وهناك ولكن الائمة (ع) كانت لهم ثقافة متكاملة، هذه الكتب يجب ان تتحول الى كتب دراسية يدرسها ابناؤنا وبالتأكيد هذه الدراسات سوف تتحول الى حالة من ثقافة الايمان العرفانية الالهية السليمة.
ثالثاً: اخلاقيات النبي (ص)، بعض الناس يقول انا في مجتمع لديه اخلاق خاصة اذا اردت ان اعيش فيما بينهم لا بد ان اكون مثلهم ولذلك تتحول اخلاقي مثل اخلاقهم، وفعلاً مع الاسف الشديد بعض الناس خلقهم طيب وسلوكهم طيب ولكن عندما يدخل بعض زوايا المجتمع تتحول وتتراجع اخلاقه شيئاً فشيئاً وهو لا يدري، انا اقول لمثل هؤلاء اوليس النبي (ص) كان في مجتمع جاهلي اثّر فيهم ولم يؤثروا فيه؟ اثّر فيهم وهداهم الى الطريق الصحيح، انت حينما تلتزم بخلقك الرفيع مع الزمن الناس يتأثّرون بك ويتعطرون بشذاك ويستفيدون من هُداك، ودعوتي الى ابنائي الشباب، لا سيما طلبة العلوم الدينية ان تكون الى جانب هيئتهم الظاهرية التي ترمز الى هيئة النبي (ص) والى ملبسه، تكون الى جانبها الهيئة الواقعية في اخلاقهم، يمثلون النبي (ص) في طريقة تعاملهم، في نومه (ص) في يقظته في طريقة تعامله في الحياة، كانت هناك سنن وآداب واخلاق سامية جسدها في حياته اليومية، يجب ان نقتدي به نحن جميعاً في حياتنا اليوم.. فندرس تأريخه وحياته المعطاءة، كانت الحياة تحيط به وهو رقيق القلب كثير البكاء عندما يجد شخصا مظلوماً او مصاباً كان (ص) يهتم به، هذه الاخلاقيات يجب ان نعيدها ونطبقها في حياتنا وكان الكثير من علمائنا يتمثلون بهذه الاخلاقيات الرفيعة وعاشوا واستطاعوا من خلالها ان يؤثروا في محيطهم.
رابعاً: حينما سُئلت زوجة من زوجات النبي (ص) عن اخلاقه فقالت: "كان خلقه القرآن" على الجميع التوجه الى القرآن الحكيم والتوجه الى آياته ودراستها والتدبر فيها وتعليمها الى الآخرين، هذه في الواقع آفاق لتحويل مجتمعنا الى مجتمع الرحمة النبوية وبذلك نستطيع ان ننجو بعون الله من هذه المشاكل الطارئة والازمات التي تحيط بنا اما اجتماع هنا ومؤتمر هناك هذه الظواهر لا أقول لا تؤثر لكن التأثير الجدي هو ان يعود الناس الى رسول الله (ص) والى ذريته والى الكتاب الذي حمله رسول الله (ص) وهو القرآن الكريم هذا الطريق الوحيد، وعلى كل شخص منا مهما كان شأنه ومقامه عليه ان يقوم بدوره في هذا المجال لنشر عطر رسول الله (ص) ونشر هذه الفضائل بطريقة او بأخرى، نسأل الله سبحانه وتعالى ان يجعلنا من اتباع النبي (ص) وان يحيي قلوبنا بحياة النبي (ص) ويعطر خلقنا بخلق النبي (ص) ويرحمنا برحمة النبي (ص) ويجعل سيرة واخلاق ورسالة النبي (ص) دافعاً ونبراساً لنا لنشر راية الرحمة في العراق وفي كل منطقة تعيش التوتر والآلام، نسأل الله سبحانه وتعالى ان يعيد اخواننا المهجرين الى بلادهم وان يستتب الامن والراحة في كل ربوع العراق حتى يعيش ابناؤه تحت ظل الاسلام وتحت ظل النبي (ص) وتحت ظل القرآن في راحة وطمأنينة وسلامة انه ولي التوفيق وصلى الله على محمد وأهل بيته الطيبين الطاهرين.
|
|