دروس من دولة الماضي لدولة الحاضر
الفساد الاداري والارهاب الفكري وراء سقوط الدولة الاموية
|
ان موقف اي امة يرتبط برؤيتها بالحياة وهذه الرؤية تستوحى من رؤيتها للتاريخ، ومن هنا فإننا حين ندرس التاريخ يجب ان ندرسه بشكل يعيدنا للواقع الذي نعيشه، وعليه لما كانت دولة العراق اليوم في باكورة تكوينها الحديث كان علينا ان نجدّ ونجتهد في بناء اركانها بناءاً صحيحاً وعلى اسس علمية دقيقة قائمة على اساس التأصل والانفتاح أو ما نسميه الاصالة والتطور وهي من الاسس القيمة التي نادى بها الاسلام.
وإذا كان الانفتاح يعني النظر بما يمكن ان يؤخذ من معطيات العلم الحديث ـ وما يخصنا هنا هو النظر في افضل تجارب بناء أركان هيكلية الدول القائمة اليوم ـ فان الاصالة تعني موافقة تلك المعطيات للحالة الخاصة للشعب العراقي اي التراث والعادات والتقاليد والدين، ولمّا كان الدين هو المقدم على كل شيء لانه الاصل وما عداه هي الفروع، ذلك ان الدين هو شريعة الله العليم الحكيم بكل الامور، فهنا كان لزاماً علينا النظر في تاريخ واحوال الدولة الاسلامية التي قامت ببعثة النبي (ص) وانتهت بإنتهاء حكم الامويين، فننظر في عناصر قوتها ونعمل على ايجادها وتفعيلها بما يتلائم مع العصر، وكذلك نبحث في اسباب سقوطها وعناصر ضعفها وخاصة تلك التي ما تزال مستمرة حتى اليوم.
وبالرغم من ان الاطروحات الاسلامية متعددة حول آلية الهدم والبناء وهل هما متوازيان بنفس النسبة ام متوازيان بنسب مختلفة حسب حالة كل دولة ومجتمع أم انهما يقعان في اتجاه طولي بأن تتم عملية الهدم اولا ثم البناء ثانيا، برغم هذا التعدد فإنهم قد لا يختلفون في ان ما يبنى في قرن كامل ممكن ان يهدم في سنة واحدة، ذلك ان البناء صعب جداً والهدم سهل جداً ولا قياس بين الاثنين، ومن هنا كان النظر في اسباب سقوط الدولة وعناصر ضعفها امرا هاما جدا.
وامّا كانت الدولة الاسلامية قد انتهت في حقبة بني امية كان لزاما ان ندرس اوضاع تلك الدولة في تلك الفترة بصورة خاصة ونحدد نقاط الضعف ونتجاوزها ونقضي عليها في دولة اليوم.
ان من ابرز نقاط الضعف في تلك الدولة والمستمرة الى اليوم هو الفساد الاداري، وأما نقاط الضعف التي نحذر منها والتي يجب الا تظهر في دولة اليوم هي التفرقة والارهاب الفكري.
ففي مجال الفساد الاداري والمحسوبيات، فقد كانت الكثير من هذه المظاهر منتشرة في الدولة الاسلامية وبالذات في الجهاز الحاكم المسيطر على مقاليد الامور، ومن ابرز امثلة ذلك واكثرها وضوحا انه عندما كان احد الاشخاص يصبح وزيرا او واليا، فان هذا الامر يستتبعه ان تصبح كل المجموعة القريبة منه صاحبة اهمية و تتولى بذلك مناصب عالية، لا لشيء يمتازون به أو كفاءة يمتلكونها سوى قربهم من هذه الشخصية صاحبة الموقع والمنصب الحساس.
فهذا معاوية بن ابي سفيان يؤمّر ابنه يزيد بن معاوية ويجعله على راس جيش من جيوش المسلمين الذاهب للقتال ضد البيزنطينيين، وفعلا سار بهم ولكنه في الطريق وصل الى منطقة ذات ماء عذب وهواء عليل، وبعض الاديرة، وقديما كان في الاديرة (جمع دير) انواع مختلفة من الخمور المعتقّة فوجد يزيد ذلك فرصة مناسبة حيث وجد له بالاضافة الى ذلك عشيقة تؤنسه وتلاطفه، فاستقر هناك وطاب له العيش في ذلك الدير فتوقف الجيش فترة، فانتشر فيه الوباء وتحطمت نفسيات الجند والمقاتلين وجاء البعض الى يزيد ليحثّه على الخروج والمسير لقتال الروم، ولكن يزيد رفض رفضا فاطعاً وهنا يقول بعض المؤرخين: "ان هذا الجيش بضخامته لو اصطدم مع البيزنطينيين لكان من الممكن ان يقضي عليهم ويسجل نهايتهم الى الابد، ولكن مع الاسف ان القائد الذي كان يمسك بزمام الامور لم يكن يملك ذرة من الكفاءة والمقدرة على انجاز ما وجّه اليه، ولذلك فلا غرابة ان يعود هذا الجيش منكسرا ذليلا محطماً نفسيا".
ومظهر آخر من مظاهر المحسوبية، وهو انه اذا عزل خليفة ما أو مات، فإن الذي يحلّ مكانه كان اول ما يفعله هو ان يأتي على الاخضر واليابس ممّن خلّفه الذي سبقه في الحكم، إذ يبادر في البدء الى تغيير جميع الولاة استبدالهم بأهل بيته وخاصّته، ليس لكون من يأتي بهم اصحاب كفاءة او تجربة وإنما لأنهم من اهله فقط!
وبسبب ذلك عمّ الاضطراب والتوتر في البلاد الاسلامي ، كما تدهورت اوضاع الكثير من الاهالي.
وعلى سبيل المثال، عندما جاء البرامكة الى الحكم، أتوا حتى بأطفالهم ونصّبوهم في مواقع حساسة في الدولة، وعندما جاء جماعة الفضل، نصّبوا الشخصيات التي تواليهم في السلطة دون ادنى تقدير للكفاءة والقدرة.
وهذا هو الحجاج بن يوسف الثقفي عندما كان والياً من قبل الامويين على الكوفة، فقد جعل ابن اخيه محمد بن القاسم الثقفي والياً على السند وابن عمه على خراسان، ولكن عندما جاء والٍ غيره، فانه سرّح كل العمال الذين كان الحجاج قد عيّنهم وسجن قسما آخر منهم.
إذن هكذا هي الصورة التي كانت على صعيد المحسوبيات والتي كانت متفشية ومنتشرة في الجهاز الحاكم والمسيطر على مقاليد الامور في البلاد الاسلامية.
وأما في مجال التفرقة العنصرية فقد كانت التفرقة العنصرية والتفاوت الطبقي والظلم الاجتماعي في أشد حالاتها والامثلة على ذلك عديدة، إذ يرسل معاوية رسالة في آخر حياته الى واليه على البصرة يقول فيها: "اني رأيت هؤلاء العلوج قد كثروا في بلادنا، فخذ هذا المقياس وارسل له خيطأ من خمسة عقد وانظر اذا كان احد من الموالي اطول منه فاضرب عنقه"، وكلمة (العلوج) تعني الكفار عموماً وبالخصوص القوي الضخم منهم، وهذا يبيّن فكرة الامويين حول الجنسيات غير العربية، بأنها غير مسلمة إذ إن الدين الاسلامي للعرب فقط.
فاذا كان هناك رجل طويل فما ذنبه في ان الله قد خلقه طويلا؟!، هكذا ولأول مرة في التاريخ نرى ان الرجل من الموالي الاطول من الاخرين يجب ان يعطي نفسه ضريبة طوله.
اضف الى ذلك ما ذكره المؤرخون كثيراً الى درجة ان بعضهم اعتبره احد الاسباب الرئيسية في انهيار الدولة الاموية.. الا وهي التفرقة العنصرية التي مارسوها بين اهل الشمال (المضريين) ـ نجد واطرافها ـ وبين اهل الجنوب (اليمنيين) ـ قبائل ربيعة واليمن.. ولقد ظلت الحروب والعداوة منتشرة بين الفريقين منذ زمان معاوية وحتى زمن المأمون العباسي، وإن كانت تخف في بعض الفترات إلا إنها ظلت مستمرة على شكل ثارات ومناوشات بين الطرفين.
فالقبيلة المضرية تقتل عشرين رجلا من اليمنيين، وهؤلاء بدورهم إذا رأوا عشرين مضرّياً فأنهم يبادرون الى قتلهم حتى لو لم يكن لهم ناقة ولا جمل فيما يحدث.
كل ذلك كان يجري على مسمع ومرأى من السلطة وبتشجيع منها على استمراره، بدلالة انها ـ السلطة ـ عندما ارادت ان توقف هذه الحروب فانها استطاعت.
وقد حدث هذا في عهد هارون الرشيد عندما بعث جعفر البرمكي ليقوم بهذه المهمة فتوقفت الحرب، والى ما يقارب العشرين سنة لم يحدث ان قتل احد من قبل احد الطرفين، ولكن بعدها عادت المعارك بسبب بعض الخلفاء الذين غذّوا الخلافات مرة اخرى، وعادت بذلك المجازر التي كانت تأخذ في طريقها الاخضر واليابس ويذهب ضحيتها الشيوخ والاطفال والنساء المساكين.
أما الجزء الاخر من الصورة التي كانت تعيشها البلاد الاسلامية وهو الارهاب الفكري الذي سيطر وخيّم على الوضع، حيث مارسه الخلفاء في اجلى صورة، وكتب التاريخ مليئة بالشواهد والامثلة التي تحكي واقع هذا الارهاب وانعكاساته السلبية على الحركة الثقافية وبين المفكرين المسلمين، وبالتالي على مصير الامة الاسلامية ككل.
وبالرغم من ان الاسلام جاء بشعار (لا إكراه في الدين) فان الارهاب الفكري قد ساد لفترات طويلة، ولو كانت الحرية هي السائدة في الدول الاسلامية، لطرح الجميع آرائه ونضجت الرؤى ولحصل تلاقح فكري يعود على المجتمع الاسلامي بالفوائد الجمّة، ولحلّت الكثير من الاختلافات الفكرية والفقهية التي نشأت بين المسلمين ومن ثم لعادت على البشرية جمعاء بالفوائد الكثيرة.
ان التقدم العلمي الذي نشاهده في الدول الاوربية اليوم، انما تحقق الجزء الاكبر منه بسبب الحرية الفكرية التي سادت بعد العصور الوسطى، ففي عصر النهضة نضجت الرؤى وساعدت الحرية الفكرية على تنميتها، بينما الذي حصل في الدول الاسلامية هو العكس، حين ساد الارهاب الفكري بسبب سيطرة الحكومات الظالمة المنحرفة، مما عرقل نمو الفكر البشري واوقف عملية نمو المسيرة الاسلامية وفي ذلك لعبرة لمن اعتبر (الحاكم، السلطة، المحكوم، الشعب، الخادم، المؤسسات، والمخدوم ـ الشعب) على حد سواء.
|
|