قسم: الاول | قبل | بعد | الاخير | عناوين اقسام | عناوين جميع اقسام
مواقف خالدة
مرجع الدين والسلطان
يذكر الملك نادر شاه زار مدينة النجف الأشرف، وهناك إلتقاه بعض العلماء رهبةً أو رغبةً، إلا أحد العلماء لم يخرج لزيارته، فغضب الشاه من فعلته فأمر وزيره بأن يذهب إليه ويسأله عن سر تغيّبه، فإن كان من زمرة المعارضين حين ذاك سيأمر بهدم داره وإعدامه وأسر عائلته، فذهب الوزير إلى العالم وأخبره بما حدث.. فأزداد العالم إصراراً على عدم المجيء وقال فليفعل ما يشاء!!
عندما عاد الوزير وأخبر الملك بما قاله العالم، ثار الملك غضباً فقرر أن ينفذ تهديده، حاول الوزير التدخل والتوسط لصالح ذلك العالم فقال للملك: "إنه عالم واحد فقط بينما الذين زاروك من العماء الآخرين كانوا كثر، فلماذا تغتاظ من واحد لايقدم ولايؤخر"؟
فسكن غضب الملك، لكنه قرر فجأة زيارة هذا العالم من دون رفقة أحد سوى الوزير... دخلا عليه فوجداه في بيت بسيط جداً، فدخلا مجرته فإذا هي بالية من أثر الزهد، قال له الشاه: هل لك حاجة أقضيها لك؟
قال العالم: لا أريد منك حاجة إلا واحدة، وهي أن لا تؤذي الناس.
فتعهد الملك للعالم بأنه سيلتزم بهذه الوصية طول حياته فقام وخرج من البيت وهو يمشي القهقري! يقول الوزير: إستغربت مما فعل الملك ومن إحترامه المبالغ فيه للعالم، حيث خرج من عنده كخروج العبيد من عند الملوك فسألته كيف حدث ذلك وأنت الذي كنت غاضباً عليه؟، فقال الملك: لقد رأيت في الرؤيا أن هذا العالم كان جالساً مع الإمام علي (عليه السلام).
هذه القصة تحمل معاني كثيرة يجب أن نتعلم منها ونتعظ بها ومن هذه المعاني: إن العلماء يختلفون في مستويات إيمانهم وشجاعتهم وحكمتهم، فمنهم من يكون من وعّاظ السلاطين الذين يتسترون على عيوب الطغاة ويصمتون على سوءاتهم إما خوفاً من سيوفهم أوطمعاً في أموالهم، وهؤلاء سيحاسبون عند الله حساباً شديداً لأنهم سيكونون في مقام واحد مع اولئك الطغاة، لأنهم بسكوتهم إشتركوا معه في جريمته، وهناك أحاديث كثيرة تخصّ وعّاظ السلاطين أو الذين يسكتون أمام الظالم الساكت عن الحق شيطان أخرس، فالإنسان العادي الذي يرى ظلماً ولايجابهه بالكلام يصبح شيطاناً أخرساً فكيف إذا كان عالماً؟!
ومسؤولية العالم كبيرة تنبع من كونه يمثل قيادة الأمة وهو المسؤول أمام الله في الدفاع عن مصالحها وقيمها ومبادئها، فإذا كان هذا العالم ساكتاً فما بالك بالإنسان العادي كيف سيواجه الظلم وهو يرى قائده بهذا الحال؟، لذلك اعتبر العلماء أن الشجاعة من أهم المواصفات التي ينبغي أن يتمتع بها عالم الدين ليصلح أن يكون مرجعاً لهم، لأن الشجاع هو الذي يصدر فتواه من دون تردد ومن دون خوف أو وجل من طاغية أو من مجموعات أو من أية قوى أخرى، فهو لا يخاف في الله لومة لائم.
وصفة الشجاعة هي في الواقع لا تأتي من فراغ وإنما هي من نبع الإيمان الصافي، بينما الجبن هو دليل على ضعف الإيمان وقلة التوكل على الله، وبالتالي فإن من لايحصل على "الشجاعة" لايحق له أن يتبوأ مقعد القيادة في الأمة، فهو ليس فقط سيكون عاجزاً في الدفاع عن مصالح الأمة، بل هو رجل ضعيف الإيمان والتقوى فيكون من هذا الباب لايصلح لمثل هذه السمة.
وكما رأينا في القصة التي ذكرناها في مقدمة الحديث أن ذلك العالم كان إنساناً مبدئياً يدافع عن الحق حيث كان ولاترهبه تهديدات السلاطين ولاتثنيه إغراءاتهم، كان بإمكانه أن يبرر لنفسه ويقول: "أكون مع الجماعة أفضل"، فلماذا ينفرد هو بهذا الموقف من دون العلماء الآخرين الذين ذهبوا لزيارة الملك؟
ومن المؤكد إنه سأل نفسه لماذا أزور الملك؟ هل خوفاً من سوطه وسيفه أم لأجل ماله ودنياه؟ وكلاهما أمران لايرضيهما الدين لعالمه، فالدين يعني الوضوح ويعني الإستقامة والثبات مهما كلف الأمر من تضحيات، هذه هي سيرة الأنبياء وهذه هي تضحيات الصالحين وهذا هو تاريخهم المسجل بالدماء،"إن من يحمل الدين وساماً على ظهره سيمنح شرف الشهادة" وهذه كرامة الله لمن يكون بهذا المقام.