المنظومة القيمية
تقبّل النقد وإحترام الرأي الآخر
|
تسعى الحكومات في الغالب أن تحتفظ بشرعيتها القانونية وتبرز نفسها بمظهر بريء من الخطأ والزلل، وفي هذا المجال فهي لاتتهاون عن أي محاولة في سبيل تحقيق ذلك وإن تطلّب الأمر أن تتوسل بالأكاذيب والخدع، وكما يقول الفيلسوف البولندي كولا كوفسكي: "الحكومات تكذب على مواطنيها مرارا وبشتى الأنواع، سواء بصورة مباشرة أو غير مباشرة".
وتشتد هذه الحالات عندما تواجه تلك الحكومات إنتقادات لاذعة لتتملّص عن مسؤولياتها تجاه الأزمات المختلفة في البلاد أو لكي تغطي على ممارساتها الغير قانونية.
وتنظر هذه الحكومات إلى عملية النقد بإعتبارها عاملا لهدم كيانها أو هاجسا يهدد شرعيتها بالزوال، ولهذا فهي تقف وبكل قوة وصرامة أمام عملية النقد ولا تتوانى عن أي وسيلة في سبيل الحد منها أو منعها بتاتا.
وحقا إن عملية النقد في حد ذاتها تحتوي على مضامين أوسع من مفهومه الضيّق، كعناوين التجريح أو الطعن بالآخرين.
من جانب آخر يعتبر قبول أو رفض النقد من قبل هذه الحكومات مؤشرا واضحا على مدى مصداقيتها في التعامل مع الجماهير.
أما في حكومة الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام، فإن التعامل مع النقد كان يختلف مع ماكان مألوفا من الحكومات الأخرى، فهو ـ عليه السلام ـ ليس فقط كان يرحب بالنقد، بل كان يدعو الناس إلى ذلك، فكان يطلب من الرعية أن ينتقدوا مايرونه حقيقا للنقد، ويصرّحوا بما يختلج في نفوسهم من رأي أو إعتراض أو إحتجاج دون أي تخوّف أو حرج، وكان ـ عليه السلام ـ يحذّر الولاة من إيجاد الحواجز المختلفة بين الحكام والرعيّة في سبيل تسهيل عملية النقد.
وفي ذات مرة، صادف أن تحدث مع الإمام شخص بشيء من الرهبة والتخوف، فلم يلبث الإمام عليه السلام حتى إنهال عليه بخطبة مفصّلة، واضعا بذلك حداً لهذا النمط من التحدث وواصفا هذه الحالة بأنها مظهر من مظاهر محادثة الملوك والجبابرة حيث قال: "فلا تكلّموني بما تكلّم به الجبابرة، ولا تتحفّظوا منّي بما يتحفّظ به عند أهل البادرة، ولا تخالطوني بالمصانعة، ولا تظنّوا بي استثقالاً في حقّ قيل لي ولا التماس إعظام لنفسي، فإنه من استثقل الحقّ أن يقال له أو العدل أن يعرض عليه، كان العمل بهما أثقل عليه، فلا تكفّوا عن مقالة بحق أو مشورة بعدل، فإني لست في نفسي بفوق أن أخطيء ولا آمن ذلك من فعلي".
هكذا حثّ الإمام أصحابه على قبول النقد وإستقباله برحابة صدر، بل الأعظم من ذلك كان هو من أعظم المنتقدين لعامليه وولاته، وكان مراقبا يقظا في الإشراف حتى على صغائر أعمال وتصرفات عامليه إبان خلافته فلم يكن ليتساهل أو يتهاون أمام أي زلل أو خطأ من ولاته، وإذا صادف أن صدر من أحدهم زلل كان يوبخه أو يعاقبه دون حرج.
إن الرسائل التي كتبها الإمام إلى ولاته، لهي خير دليل على سيرته ومنهجه في إرساء دعائم صارمة لتعامل القائد مع الولاة وكبار الموظفين.
ففي الرسالة رقم (41) في نهج البلاغة والتي وجهها الإمام إلى زياد بن أبيه عندما أطلع على تصرفاته الغير صحيحة، نجده ينتقد زياد إنتقادا شديدا، دون أن يأبه عليه السلام بالتبعات الخطيرة المتمثلة بإنضمام هذا الشخص لمعسكر معاوية، بل الأكثر من ذلك حذّره الإمام بالقصاص فيما إذا ثبت خيانته لبيت مال المسلمين، يقول الإمام في رسالته: "فاتّق الله واردد إلى هؤلاء القوم أموالهم، فإنّك إن لم تفعل ثم أمكنني الله منك لأُعذرنّ إلى الله فيك، ولأضربنّك بسيفي الّذي ما ضربت به أحداً إلاّ دخل النّار".
ولكن أكثر هذه الرسائل تقريعا هي الرسالة رقم (45) التي يخاطب فيها الإمام عثمان إبن حنيف واليه على البصرة رغم أنه الرجل كان من خيرة أبناء زمانه وكان من جملة صحابة رسول صلى الله عليه وآله وسلم.
فقد دعي عثمان إبن حنيف إلى وليمة فاخرة، فاستجاب لتلك الدعوة وعندما سمع الإمام بذلك الأمر غضب غضباً شديدا ووجه إليه تقريعا لاذعاً لإستجابته لتلك الدعوة، جاء في تلك الرسالة: "وما ظننت أنّك تجيب إلى طعام قومٍ، عائلهم مجْفوّ، وغنيّهم مدعُوّ".
ورغم أن تلبية دعوة أحد الأغنياء لايشكل مؤشرا هاما في ملف نزاهة الولاة عند الحكومات المختلفة، بل ولايعتبر ذلك خطأً أو ذنباً، ولكنه في حكومة الإمام أمير المؤمنين أمر مرفوض تماما، ذلك لأن من شأنه أن يهيء الأرضية اللازمة لتصرفات أكثر فداحة من الوالي نفسه أو من سائر الموظفين، وبذلك تصبح القيمة السائدة في المجتمع: أن يكرم الغني المترف ويهان الفقير المستكين.
وفي فترة خلافته عليه السلام، لم نجده يستثني أحداً من الولاة أو العاملين تحت إمرته من دائرة المراقبة والنقد، بل ولم يجعل لنفسه الحصانة من التعرض للنقد، فهو كان يعتبر ذلك أصلا من أصول الأخلاق ومنهجا للحكومة والإدارة، على الرغم من أن الذين عاصروا الإمام لم يكن يروق لهم ذلك.
|
|