أخلاقيات الاختلاف
|
*فاضل عبد الله إمويّس
حينما يسطّر (العمالقة) كلمات عميقة لا تنفصل أُولاها عن أُخراها حيث كل كلمة تعطي معناً محددا أراده، فان إزالة أي كلمة من شأنها أن تغير كل ما رمى إليه الكاتب، فضلا عن إدعاء الوصول للمعنى بفهم جزئي من النصّ المكتوب إن كان الكلام مكتوباً، لذا يلجأ أولئك (العمالقة)، إلى البناء الذي يكون بعيداً عن تعرضه لسوء الفهم.
ولكن الأمر المرير أن يدّعي البعض انه وصل إلى المعنى المراد فعلاً، في حين انه (من جَنْبِها) -كما يُقال- والمعنى لا صلة له بالشيء من قريب ولا بعيد. والفظاعة في الأمر كله أن ينسبها إلى نفسه أو إلى غيره في حين أنها لم تَطُله ولم ترِد غيره، سواء كان المكتوب مدحاً أم ذماً.
إنها مشكله بحد ذاتها إلى جانب ما تخلقه من نزاعات مريرة أقل ما فيها أنها تفرّق بين الأحبة، إلى أجزاء، وهذه بدورها أيضاً تفرق إلى فرق أخرى وهو حال مجتمعنا اليوم كما أراه. وكما يقول القائل:
فتفرقوا شيعاً فكل قبيلة فيها أمير المؤمنين ومنبرُ
فالروايات والأحاديث تركز على حمل المؤمن على الخير ولكن في الوقت نفسه تعدد الآراء والأفكار والتوجهات مطلوب للرقي والتطور الذي يسعى إليه المجتمع. وبجانب هذا كله ينبغي أن تسود ثقافة الاختلاف وحمل الآخر على ما تحمل عليه نفسك.
فمرات ومرات يتنازل شخص لحساب آخر ولكن هذا الآخر (من جنْبِها) حين نتحدث عن أخلاقيات الاختلاف. وإلى جانب هذا كله، ينبغي الأخذ بعين الاعتبار أن الآراء قابلة للنقاش والتغيير طال الوقت أم قصر، فلا يحمل شخص على رأيه مدة حياته وكذا حمله على رأياً له في مسالة معينة على شخصيته وأفكاره جميعها والتحامل عليه في كل شيء آخر. وفي هذا يقول علي (عليه السلام): (أيها الناس، من عرف من أخيه وثيقة دين وسداد طريق، فلا يسمعن فيه أقاويل الرجال. أما إنه قد يرمي الرامي وتخطئ السهام ويحيل الكلام ... أما انه ليس بين الحق والباطل إلا أربع أصابع... فسُئل (عليه السلام) عن معنى قوله هذا، فجمع أصابعه و وضعها بين أذنه وعينه، ثم قال: (الباطل أن تقول سمعت، والحق أن تقول رأيت). (1)، و ورد عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قوله: (احمل أخاك المؤمن على سبعين محملاً من الخير)، ولكن السؤال هنا؛ هل أن الاختلاف مطلوب!؟
نعم؛ وبفم فاغر، لابد للمجتمع من الاختلاف ولكن في أطر محددة لا يتعداها إلى ما بعدها فيتحول الاختلاف المحمود هذا إلى آخر مذموم يلقي بالمجتمع في النهاية إلى الدمار. ومن هذه الأطر التي ينبغي مراعاتها والتي اعتقد أنها الأساس في أدب الاختلاف ما يلي:
1- الاختلاف العلمي (2):
يقول تعالى: "وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَآ أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً" (النمل /14)
كثيراً ما نسمع عن حوارات هنا وهناك سواء كانت دينية أم علمية أم غيرها وكثيراً ما يصل عقل أحد الطرفين للتسليم والإذعان للأدلة المطروحة، وكثيراً ما نسمع عن حوارات انتهت بأدلة وبراهين عقلية لا يمكن ردها، ومرات قليلة فقط تذعن فيها النفس ويتغلب العقل عليها، فالعقل في الحالة الأولى سلّم وأذعن، ولكن في الحالة الثانية رفضت النفس، وغلب هوى النفس على قدرة العقل.
فالحوار العلمي المطلوب هنا، هو حوار رد الدليل بالدليل والحجة بالحجة إلى جانب إعمال العقل وتطويع النفس للواقع فلا يكون الهدف إذلال الآخر واثبات خطأه بل الأخذ بيده للحقيقة. وفي الوقت نفسه ينبغي الابتعاد عن الشبهات والإشاعات والمصادر غير الدقيقة، وإلا تكون النتيجة إضاعة الوقت والجهد. وللأسف ما نشاهده اليوم من حوارات سواء على الفضائيات أم غيرها هو حوار (أرقام صفحات) فترى المحاور في الحلقة الثانية مجهداً نفسه، فاغراً فاه، شاهراً سيفه ليقول للطرف الأخر: (إن صفحة المصدر التي ذكرتها في الحلقة الأولى خمسة وليست ستة)!
2- أدب الحوار (3):
تارة ً يكون الحوار هادفاً يسعى الطرفان فيه للوصول الى الحقيقة، وتارة يؤسس ويبني الحوار على الاختلاف والمقاطعة وتبادل الشتائم حيث انه لو اتفق الطرفان لما كان هناك حوار من الأساس فضلاً عن آداب الحوار المعروفة وهذا حوار مرفوض جملةً وتفصيلاً. فالإلتزام بالآداب مطلوب حتى مع عدم الوصول إلى نتيجة في نهاية الحوار وكما ذكرت لا ينبغي حمل الشخص على رأيه في كل شيء بل يحتفظ كل من الطرفين بما يقتنع به.
وختاماً؛ لنردّ الخير للآخرين كما نريده تماماً لأنفسنا ولنحاول فهم الآخر على ضوء القاعدة التي أرساها الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام): (الناس صنفان؛ إما اخو لك في الدين أو نظير لك في الخلق) ولنترك خلافاتنا جانباً ليتسنى لأبنائنا فتح صفحة جديدة مليئة بالود والمحبة والتسامح والاحترام المتبادل.
**************
هوامش:
1)من خطبة لعلي في نهج البلاغة
(2)(3) ذكر هذين العنوانين سماحة الشيخ عبد الأمير منصور الجمري بتاريخ 9/12/2001م في إحدى محاضراته كآليات للاختلاف المطلوب
|
|