الشعب ونظام الحكم..
الثقة من الحاكم والرضا من المحكوم
|
*حسين محمد علي
أعطى الإسلام أهمية كبرى لمسألة القيادة بمفهومها العام والخاص؛ بشكل عام، من أجل أن يكون الإنسان دائم الوضوح في مسيرة حياته، فهو يسيّر ويجيّر كل الامكانات والطاقات وأحياناً الظروف الموضوعية لتحقيق ما يصبو اليه في هذه الحياة، وبشكل خاص لتحديد نمط الإدارة السياسية والاجتماعية. وبعبارة أخرى؛ تحديد نظام الحكم.
تعددت الآراء والطروحات حول الشكل الأمثل للقيادة في المجتمع، فقد ذهب أصحاب الأيديولوجيات والأفكار الوضعية الى رسم نماذج وطرحوها على بساط البحث، ثم اقحموها في مسرح الاحداث وعلى صعيد الواقع، لتكون الطريقة والسبيل الذي يأخذ بأيد الناس الى تحقيق ما يصبون اليه، وأيضاً ما يصبو اليه أصحاب تلكم الأفكار. فيما تقدم أصحاب النظرية الاسلامية بطرح نموذج للقيادة في المجتمع يتميّز بالدرجة الأولى بالمصداقية، كونه مجرّب منذ أربعة عشر قرناً، وليس هو من بنات أفكار اشخاص عاديين أو وليدة ظروف معينة، إنما هي منحة سماوية للبشر جاء بها الدين الاسلامي، وبالحقيقة هو حسب التعبير القرآني (هدىً) للمسلمين وأيضاً لجميع الانسانية، لما ينطوي على منظومة اخلاقية واجتماعية ونفسية متكاملة. ولذا فالقيادة هنا تتميّز بصفة بارزة وهي (الرسالية)، وكما ان الدين الاسلامي يؤكد حقيقة الاتصال والعلاقة بين العبد وربه في كل الحالات، فانه يعد مسألة القيادة هي عملية تكاملية بين القيادة والقاعدة.
الرضا الاجتماعي..
قبل كل شيء لا بد أن نعرف أن القيادة الرسالية هي قيادة القلوب قبل قيادة الأبدان. فهي قيادة الرضا وليست قيادة التسلّط. إنها قيادة التسليم وليست قيادة الارهاب. ومن دون إيجاد حالة الرضا التي تشكل أرضية القيادة في المجتمع، يستحيل ضمان سلامة القيادة في قمة الهرم، أو استقرار القائد الأعلى لهذه الأمة في مكانه.
لكن ما هي ضرورة الرضا؟ ولماذا يجب أن يتوقف عنده القائد في علاقته مع المجتمع؟
إن من الصفات الاساسية للمسلم هو الرضا، وهو بمعنى إيمان الإنسان بمحورية الحق في هذه الحياة، فاذا كان هناك إنسان أسود اللون في مجتمع يكون السواد فيه قيمة سلبية، فلا يجوز أن يموت قلقاً ويقول: لماذا خلقني الله هكذا؟ّ! أو إذا كان هناك رجل قصير في مجتمع كل أبنائه طوال القامة، فليس له أن يُقلق نفسه ويغتاظ وينظر إلى الحياة عبر نظارة سوداء لأنه قصير القامة.
إذن؛ الرضا هو إعتراف الإنسان وتسليمه واقتناعه بدوره المحدد له في الحياة وبحالته المتميزه في المجتمع، ثم الشروع إبتداءً من تلك النقطة للتحرك إلى الامام، فمن يقف في أعلى الجبل، فإن الرضا بالنسبة إليه هو إعترافه بأنّه فوق الجبل، وعليه أن يتحمل مسؤوليته كإنسان واقف فوق القمة. أمّا الذي لا يزال في السفح أو الذي يعيش في الوادي فيجب أن يرى نفسه حيث هو حتى يبدأ من تلك النقطة المنحدرة فيرتفع إلى الأعلى.
والمجتمع المسلم هو مجتمع الرضا. كل فرد فيه يؤمن بحجمه ودوره، وتكون نظرته إلى نفسه وإلى إمكاناته وإلى موقعه الاجتماعي وإلى واجباته في هذا الموقع نظرة سليمة وحقانية، لا تتبع الهوى أو الأماني. لذا نجد القرآن الكريم يعيب على طائفة من أهل الكتاب كانوا لا يعرفون الكتاب إلاّ أماني، يقول تعالى: "وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلاّ أَمَانِيَّ" (البقرة /78)
وقد عدّ القرآن الكريم (الرضا) من أعظم صفات المؤمنين، ويعبِّر عنها بعدة عبارات متقاربة المضمون، فقد يعبّر عنها بالرضا، قائلاً: ?يَآ أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إلى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي*وَادْخُلِي جَنَّتِي? (الفجر،27-30)، وقد يعبر عنها باليقين كما في الآية الكريمة: ?وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِاَيَاتِنَا يُوقِنُونَ? السِّجدَةِ،24، وقد يعبر عنها بالصبر: ?إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ? الزُّمر،10
وقد يعبر عنها بالتسليم: ?اِنَّ اللَّهَ وَمَلآَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَآ أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً? الاحزَاب،56 ،وقد يعبر عنها بالإسلام، الذي هو تعبير عن التسليم: ?إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإسلام? آل عمران،19، وقد يعبّر عنها بالاطمئنان، فيقول في قصة ابراهيم عليه السلام: ?قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَكِن لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي? البقرة،260.
فالرضا واليقين والصبر والإسلام، والطمأنينة، تعابير مختلفة لحالة واحدة، وهي قبول الواقع الحق، والابتداء من منطلق الحق لبناء كيان التطلعات، أي الابتداء من حيث هو، ثم التحرك إلى الامام والارتقاء إلى الأعلى.
كيف نحصل على الرضا؟
إن الرضا واليقين والطمأنينة والسكينة؛ أهداف كبيرة يجب أن يسعى الفرد من أجل تحقيقها في ذاته. إن نبي الله إبراهيم (عليه السلام) كان يتضرّع إلى الله سبحانه وتعالى لكي يريه كيف يُحيي الموتى لكي يطمئن قلبه. ونحن بدورنا نسعى من أجل الحصول على اليقين عن طريق تأمل آيات الله في الكون، والتدبر في آيات الله في القرآن. ففي سورة الأنفال يقول القرآن الحكيم: ?إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ ءَايَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ? (الانفال،2) وفي سورة الكهف يقول تعالى: ?إِنَّهمْ فِتْيَةٌ ءَامَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى * وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ? الكهف،13-14، فقلب الإنسان في اهتزار وقلق، ويأتي الايمان كحزام أمن يربط أطرافه فلا يدعه قلقاً متوتراً.
وعند مواجهة الأعداء يحكي القرآن الكريم حالة المؤمنين وذلك في سورة الأحزاب: ?وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ اِلآَّ اِيمَاناً وَتَسْلِيماً? (الاحزَاب،22) فإيمانهم بآيات الله وبوعده زادهم ايماناً، وخلق في أنفسهم شعوراً بالرضا والتسليم وهو تمام الايمان. وفي سورة الفتح يقول القرآن الحكيم: ?هُوَ الَّذِي أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَاناً? (الفتح،4)
ولأن المجتمع المسلم مجتمع الرضا والتسليم، فإن طاعة القيادة المشروعة فيه تصبح قضية طبيعية، لأنّ الفرد هنا يعترف بمستواه الحق، ويرضى أن يتعامل على أساسه. بعكس الإنسان الذي يرى نفسه فوق مستواه ويزعم أن الناس يسيئون إليه. هذا الإنسان يعيش القلق ولذلك من الصعب عليه أن يطيع قيادته، إلا أن تفرض القيادة قراراتها بشكل قسري، فإنه يفعل ذلك مُرغماً، ولا يعطي العمل حقه لانّ تطبيق القرار بدون إرادة الإنسان، يثبِّط رغبته ويحول دون إبداعه، فتأتي النتانج مخالفة تماماً لما أرادته القيادة.
وهذه هي حالة الأنظمة (البيروقراطية) التي كلما بحثوا عن حل لمشاكلهم لم يتوصلوا إلى شيء ماداموا لا يبحثون في الأسباب التي تكمن في نفسية الموظفين الذين لا يطبقون القرار كونه واجباً إنسانيا وإجتماعياً، بل كوظيفة رسمية، فيبحثون أبداً عن الطرق الملتوية للتهرب من واجباتهم، فترى الموظف ينظر خلال الدوام عشرات المرات إلى ساعته مترقباً إنتهاء الدوام ليقفز من مكتبه إلى خارج الدائرة!
إن المجتمع الذي يعيش أبناؤه القلق النفسي وحالة عدم الرضا والتسليم، تصبح الطاعة فيه قسراً، والقسر لا يدوم، أمّا في المجتمع الإسلامي، فالقائد ذو المؤهلات والكفاءات اللازمة بإمكانه أن يقوم بالواجبات الأساسية وهو واثق بأن الناس سيطبقون أوامره وخططه بدون تردد بل برغبة وعزيمة.
وحالة الرضا - وجوداً وعدماً - تؤثر سلباً أو إيجاباً على قرارات القيادة، فاذا فقدت حالة الرضا والتسليم في المجتمع يصبح حال قائده كحال الإمام على (عليه السلام) حين يتأوه ويقول: مخاطباً أولئك المتخاذلين الذين أفسدوا عليه رأيه ولم يطيعوه في حرب معاوية، حتى غزى جيش الشام مدينة الأنبار وقتل والي الإمام عليها حسّان بن حسّان البكري، وجمعاً كثيراً من رجالها، ونهب ما إستطاع نهبه من أموال وحلي: (... قاتلكم الله! لقد ملأتم قلبي قيحاً، وشحنتم صدري غيظاً، وجرّعتموني نغب التهمام - الهم - أنفاساً، وأفسدتم عليّ رأيي بالعصيان والخذلان؛ حتى لقد قالت قريش: إن أبا طالب رجل شجاع، ولكن لا علم له بالحرب. لله أبوهم! وهل أحدٌ منهم أشدّ لها مراساً وأقدم فيها مقاماً مني؟ لقد نهضت فيها وما بلغت العشرين، وها أنا ذا قد ذرّفت على الستين، ولكن لا رأي لمن لا يطاع)1.
إذن، فالمجتمع الذي تنعدم فيه حالة الطاعة، لا يستفيد من القيادة الناجحة ولو كانت تجسد قمة القيادات كالامام علي (عليه السلام).
*هامش:
1- نهج البلاغة، الخطبة رقم27.
|
|