قسم: الاول | قبل | بعد | الاخير | عناوين اقسام | عناوين جميع اقسام

الاخلاق. . علمٌ يضيء نحو السلوك القويم
لمشاهدة الصورة لحجم اكبر إضغط علي الصورة *إعداد / علي جواد
ما كان للإنسان أن يرتقي على الحيوان في طريقة العيش، لولا قدرته على تهذيب نفسه وكبح غرائزه وترويض رغائبه، والمعروف ان الله تعالى اعطى الحيوان الغريزة دون العقل، فيعيش حياته ويرتبط بخالقه بغريزته، فيما أعطى تعالى الملائكة العقل دون الغريزة فهي تعبد وتسبح البارئ دون ان تكون هنالك غريزة تحجبها عن ذلك، أما الانسان فقد أودع البارئ فيه الغريزة كما أودع العقل، تقول الآية الكريمة: "وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً" (الإسراء /70). ان تقويم الغرائز بالعقل هو الذي يقدح نور علم الاخلاق في قلب الانسان السويّ الذي يفهم ويدرك حجم التكريم الالهي له. من هنا كانت الاخلاق كمفهوم وقيمة مقدسة، محور الرسالات الالهية، فمن جملة مهام الانبياء والرسل، هي تقويم السلوك الانساني وأن لا تغلب الغرائز العقل، كما لايكون العكس كذلك، فقد أودع الله في الانسان غريزة الميل الى الجنس الآخر، وغريزة حب البقاء وغريزة الطعام وايضاً العاطفة الانسانية. كل ذلك يجب ان يكون بميزان العقل والحكمة. وبنسبة قوة هذا الميزان يزداد تماسك الانسان بالقيم الاخلاقية، لأنه سيكون عارفاً مدركاً اهمية هذه القيم، فلن يتخلّى عنها مهما كانت الاسباب والظروف. ولعلّ الحديث النبوي الشريف: (إنما بعثت لأتمّم مكارم الأخلاق) يعطينا تصوّراً واضحاً لمكانة الأخلاق في التحكّم بالنفوس وتشذيب النزعات السلبية التي تعجّ بها النفس البشرية.
لهذا لا يزال العلماء المعنيون والباحثون في حاضر ومستقبل البشرية، يؤكدون أهمية (المعرفة الأخلاقية)، فالاخلاق ليست شعارات تقرأ او كتاباً يتصفحه القارئ ويستلذ بافكاره وطروحاته، ثم يلقيه جانباً، انما هو بالحقيقة نور علمٍ يكتسبه الانسان بارادته وعزيمته، كما يشدّ حيازيمه ويعدّ العدّة لاكتساب سائر العلوم الطبيعية او الانسانية المعروفة في جامعاتنا ومعاهدنا.
وفي طليعة هؤلاء العلماء يقف سماحة المرجع الديني آية الله العظمى السيد صادق الحسيني الشيرازي (دام ظله)، ليؤكد على التعامل مع مفهوم الاخلاق بطريقة علمية، ففي كتابه (العلم النافع) يقول: (علينا بعلم الأخلاق... فليست أخلاق الإسلام وآدابه كلّها لا اقتضائيّة - حسب الاصطلاح العلمي- أي مستحبّات ومكروهات، بل إنّ فيها الواجبات والمحرّمات أيضاً).
وهكذا يقودنا علم الأخلاق الى حقيقة أنه ليس مجموعة آداب اجتماعية على شكل مجاملات، أو تؤطر حسب التعبير الفقهي بـ(المستحَّب والمكروه)، إنما تتعدى ذلك إلى نشر ثقافة الالتزام بالقيم الاخلاقية كما الالتزام بالاحكام الشرعية. هذه المرتبة من السلوك هي التي ترفع الانسان والمجتمع بشكل عام الى مراتب التحضّر والتقدم في مسيرة الحضارة. يضيف سماحته في هذا الاطار: (لا يتصوّر أحد أنّ الأخلاق الإسلامية كلّها علوم لااقتضائية، فكثير مما يعبّر عنه اصطلاحاً بالأخلاق إنّما هو من الواجبات، وضدّه من المحرّمات، فإنّ التكبّر والعُجب مثلاً ليسا من المكروهات ـ بالمعنى الأخصّ ـ بل هما من المحرّمات، وكذلك المِراء، وهو الجدال بالباطل، وغير ذلك ممّا يوصف بالأخلاق الذميمة).
هذه النقطة تُعد بحق إضاءة تعين الانسان على التعامل مع ذاته ومن الآخر، فاذا اكتفى الواحد منّا بالواجبات والمستحبات، وترك ما دون ذلك، لن يبقى للاخلاق أثر في السلوك الجمعي. ولعل هذا ما يفسّر تمسّك شريحة واسعة من المجتمع بما يسمى بالتقاليد والاعراف الاجتماعية التي تستبقي معظمها من الجذور الدينية، ومن خلالها يتم تقويم السلوك العام في المجتمع فيأمن الناس من التصرفات الطائشة والاعمال الخاطئة.
من هنا يأتي تأكيد سماحة المرجع الشيرازي على علمية الاخلاق ليتبصّر لها الطريق، فهو يجهل ما يخبي له المستقبل ما ستكون عليه الظروف، يقول في هذا السياق: (إنّ المطلوب هو العلم، فإنّ الإنسان لا يدري بم سيُبتلى وكيف ينبغي له أن يتصرّف، وكيف يتحدّث لئلاّ يكون من الذين وصفهم الله تعالى بقوله: "وَبَدَا لَهُم مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ"، فيعمل ويتصوّر أعماله حسنات، ثمّ ينكشف له بعد ذلك أنّها كلّها كانت سيّئات، لذا فأهل العلم أَولى بالانتباه إلى هذا الأمر الخطير).
وهنا التفاتة ربما نستشفها من كلام سماحة المرجع الشيرازي ان ثمة دعوة الى اضافة (علم الاخلاق) الى المناهج الدراسية في الحوزات العلمية، ومن هذه الحوزات المباركة سيشع نور علم الاخلاق الى ارجاء المجتمع، وكما الفقه واللغة العربية يفهمها الناس على انها من العلوم ولابد من ان يكونوا حذرين منها، فان الاخلاق ايضاً من العلوم ويجب ان يتعاملوا معه بدقة وعناية خاصة. وكما ان الناس يتجنبون الطعام الحرام والمعاملة المحرمة وغيره من المسائل الشرعية من خلال علم الفقه، فانهم من خلال علم الاخلاق يمكنهم معرفة الواجب من غيره في السلوك الاجتماعي. يقول سماحته: (لابد للإنسان أن يتسلّح بالمناهج والمضامين العلمية السليمة التي تحميه من السقوط في فخ الجهل بهذا الأمر أو ذاك، حتى لو كان دافعه أخلاقياً، لأن الأخلاق من دون علم كالقوس بلا نبل، أو كالنهر بلا ماء، فكلاهما يكمّل الآخر، إذ من الصعوبة أن توضع الأخلاق في المواضع المناسبة لها من دون علم مسبق بالواجب والمحرّم وسواهما أمور ينبغي على الإنسان أن يكون عارفاً وعالماً بها). وفي هذا السياق يضيف سماحة المرجع الشيرازي: (اعلموا أنّ العلم يعني النجاة من كلّ طارئ، فإنّ الزمان قصير حقّاً نسبة لتلك الأمور. ولو أنّ أحدنا يعمّر مئة سنة، فهو قليل تجاه ما يجب عليه، فكيف وأعمارنا أقصر من ذلك)؟
وكما ان علم الاخلاق نور يضيء لنا السلوك الحسن اللازم اتباعه، فانه ايضاً يضيء لنا السلوك نحو ما يجرنا الى المعصية بذريعة الممارسة الاخلاقية، الى هذا يذكرنا سماحته: بان (الكرم خصلة محمودة، وكذا السخاء والإنفاق وإقراء الضيف، فكلّ ذلك عمل محبّب ومقبول، ولكن إلى حيث لا يؤدّي إلى ترك واجب أو ارتكاب محرّم).
إذن فالعلم والمعرفة تحمي الأخلاق من الزلل غير المقصود أو سواه، وتصون الإنسان من الانزلاق في مهاوي الحرام من دون أن يقصد ذلك، إنما السبب هو الجهل بجوهر الأشياء وقلّة العلم بها، لهذا لابد أن يتسلّح الإنسان بسلاح العلم والمعرفة، والمسؤولية تقع على العلماء والمصلحين والمسؤولين للتشجيع على اكتساب علم الاخلاق بكل السبل، على أن لا يغيب جهد الفرد وسعيه في تحصيل العلم كي يطوّر حياته نحو الأفضل.
*المصدر / موقع النبأ المعلوماتي